للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فمن ملك نفسه وقهرها ودانها عزَّ بذلك؛ لأنّه انتصر عَلَى أشد أعدائه وقهره، وأسره واكتفى شرَّه، قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (١) فحصر الفلاح في وقاية شح نفسه، وتطلُّعها إِلَى ما مُنعت منه، وحرصِها عَلَى ما يُضيرها مما تشتهيه: من علو وترفع، ومال وجاه، وأهل ومسكن، ومأكل ومشرب، وملبس وغير ذلك.

فإنَّها تطلع إِلَى ذلك كلِّه وتشتهيه، وهو عين هلاكها، ومنه ينشأ البغيُ والحسد والحقد؛ فمن وقي شح نفسه فقد قهرها، وقصرها عَلَى ما أُبيح لها وأُذن لها فيه، وذلك عين الفلاح.

كان بعض العارفين يُنشد:

إذا ما (عدلت) (*) النفس ... عن الحق زجرناها

وإن مالت عن الأخرى ... إِلَى الدُّنْيَا منعناها

تخادعنا ونخدعها ... وبالصبر غلبناها

لها خوف من الفقر ... وفي الفقر أنخناها

وبكل حال، فلا يقوى العبدُ عَلَى نفسه إلاَّ بتوفيق الله إياه وتوليه له، فمن عصمه الله وحفظه تولاَّه، ووقاه شح نفسه وشرها، وقوَّاه عَلَى مُجاهدتها ومعاداتها.

ومن وكله إِلَى نفسه غلبته وقهرته، وأسرته وجرَّته إِلَى ما هو عين هلاكه، وهو لا يقدر عَلَى الامتناع كما يصنع العدوُّ الكافر إذا ظفر بعدوه المسلم؛ بل شر من ذلك؛ فإن المسلم إذا قتله عدوه الكافر كان شهيدًا، وأمّا النفس إذا تمكّنَتْ من صاحبها قتلته قتلاً يَهلك به في الدُّنْيَا والآخرة.


(١) الحشر: ٩.
(*) عدت: "نسخة".