للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولما كانت هذه الشريعة خاتمة الشرائع، وعليها تقوم الساعة، ولم يكن بعدها شريعة ولا رسالة أخرى، تبين ما تبدل منها، وتجدد ما درس من آثارها، كما كانت الشرائع المتقدمة تجدد بعضها آثار بعض، وتبين بعضها ما تبدل من بعض، تكفل الله بحفظ هذه الشريعة، ولم يجمع أهلها عَلَى ضلالة، وجعل منهم طائفة قائمة بالحق لا تزال ظاهرة عَلَى من خالفها حتى تقوم الساعة، وأقام لها من يحملها ويذب عنها بالسيف واللسان والحجة والبيان، فلهذا أقام الله تعالى لهذه الأمة من خلفاء الرسل وحَمَلَةِ الحجة في كل زمان من يعتني بحفظ ألفاظ الشريعة وضبطها، وصيانتها عن الزيادة والنقصان، ومن يعتني بحفظ معانيها ومدلولات ألفاظها، وصيانتها عن التحريف والبهتان. والأولون أهل الرواية، وهؤلاء أهل الدارية والرعاية، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثل الطائفتين. كما ثبت في "الصحيحين" (١) عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلُ غَيْثٍ أَصَابَ الْأَرْضَ، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةً قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهِ نَاسًا فَشَرِبُوا وَرَعُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلَأً، فَلِذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقَّهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ اللَّهُ بِمَا بَعَثَنِي بِهِ وَنَفَعَ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ».

فمثَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - العِلْم والإيمان الَّذِي جاء به بالغيث يصيب الأرض.

وهذا المثل كقوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} (٢).

فمثل تعالى ما أنزله من العلم والإيمان إلى القلوب بالماء الذي أنزله من


(١) أخرجه البخاري (٧٩)، ومسلم (٢٢٨٢)، من حديث أبي موسى الأشعري.
(٢) الرعد: ١٧.