للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكان داود الطائي يبكي ويقول: أخاف أن يطول عمري.

وسبب هذا أن من أطاع الله أَحَبّ لقاءه؛ كما قال الصديق في وصيته لعمر: إن أنت حفظت وصيتي لم يكن غائب أَحَبّ إليك من الموت، ولابد لك منه وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (١).

وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (٢). ومن أراد الله به خيرًا عسَّلهُ، فاستعمله بعمل صالح قبل موته فيقبضه عليه، إِنَّمَا الأعمال بالخواتيم.

وقوله "قلَّت بواكيه" لما كان هذا المؤمن خفيف الحاذ قليل العيال، لم يكن له عند الموت كبير أحد يبكي عليه، خلاف من له أهل وولد وخدم وحشم وعشيرة، فإنَّه يكثر بواكيه مع قلة غناهم عنه، بل يزيد بكاؤهم في عذابه كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" (٣) فإنهم كثيرًا ما يفعلون ما لا يجوز من النياحة واللطم، وتحريق الثياب، وإتلاف الأمول، والتسخط لقضاء الله، وذلك كله يعذب به الميت ويتألم به.

ولهذا أوصى كثير من السَّلف أهلهم أن لا يبكون عليهم.

لما احتضر هشام بن عبد الملك أحد خلفاء بني أمية بكى أهله، فَقَالَ لهم: جاد عليكم هشام بالدنيا وجدتم عليه بالبكاء، ترك لكم ما جمع وتركتم عليه ما حمل، ما أعظم منقلب هشام إن لم يغفر له.

وقال الحسن: شر الناس لميت أهله يبكون عليه ولا يقضون دينه، فهم يفعلون معه ما يضره، ولا يفعلون ما ينفعه في قبره، وكثر من يكي عَلَى


(١) البقرة: ٩٤.
(٢) الجمعة: ٦.
(٣) أخرجه البخاري (١٢٨٦)، ومسلم (٩٢٨) من حديث ابن عمر.
وأخرجه البخاري (١٢٩٠)، ومسلم (٩٢٧) من حديث عمر بن الخطاب.