للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الميت عند موته، إِنَّمَا يبكي لفقد حظه منه، إما من نفعه الحاصل له به من مال أو غيره، أو لفقده الأنس به ونحو ذلك من حظوظ الباكين، ولا يبكون رحمة لما هو فيه، وبكاء الرحمة هو بكاء العارفين دون بكاء الحزن، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بكى: "إِنَّمَا هذه رحمة، وإنَّما يرحم الله من عباده الرحماء" (١).

احتضر بعض (الصالحين) (٢) فبكى أبواه وولده وأهله وصبيانه، فسألهم ما الَّذِي أبكاهم؟ قال أبواه: نبكي لفراقك، وما نتعجل من الوحشة بعدك.

وقال ولده: نبكي لفراقك وما يُتعجَّلُ من اليتم بعدك. فَقَالَ: كلكم يبكي لدنياي، أما فيكم من يبكي لآخرتي؟ أما فيكم من ييكي لما يلقى في التراب وجهي؟ أما فيكم من يبكي لمسائلة منكر ونكير؟ أما فيكم من يبكي لوقوفي بين يدي ربي؟ ثم صرخ صرخة فمات رحمه الله.

فمن قلت بواكيه كان ذلك أقرب إِلَى رحمته.

وقد روى صالح المري عن الحسن قال: إن الله إذا توفى المؤمن ببلاد غربة لم يعذبه رحمة لغربته، وأمر الملائكة فبكته لغيبة بواكيه عنه.

وفي الحديث "إن من مات في غير مولده قِيسَ به إِلَى منتهى أثره في الجنة".

وقد تبكي السماء والأرض عَلَى المؤمن لفقد عمله الصالح.

وقد قال طائفة من السَّلف في قوله عز وجل: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} (٣) قالوا: إن السماء والأرض تبكي عَلَى المؤمن. فَقَالَ علي: يبكي عَلَى المؤمن مصلاه الَّذِي كان يصلي فيه من الأرض، وبابه الَّذِي كان يصعد فيه قوله وعمله، ولم يكن ذلك لآل فرعون، فلذلك لم (تبك) (٤)


(١) أخرجه البخاري (١٢٨٤) من حديث أسامة بن زيد بلفظ "هذه رحمة ... ".
(٢) كان مكانها في الأصل: "العارفين" ووضع فوقها حرف "ح" وكتب في الهامش "الصالحين" صح فكأن الأولى خطأ أو أنها نسخة والحاء "خاء"، والله أعلم.
(٣) الدخان: ٢٩.
(٤) في الأصل: "تبكي" وما أثبتناه هو الأصوب.