للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله لَمْ يَبْعَثْ نِبِيّاً إلاَّ مبلغًا، وإِنَّ تَشْقِيقُ الْكَلَامِ مِنَ الشَّيْطَانِ" (١) يعني أن النبي صلّى الله عليه وسلم إِنَّمَا يتكلم بما يحصل به البلاغ، وأما كثرة القول وتشقيق الكلام فإنَّه مذموم، وكانت خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - قصدًا (٢)، وكان يحدث حديثًا لو عده العاد لأحصاه (٣)، وقال: "إن من البيان سحرًا" (٤) وإنَّما قاله في ذم ذلك لا مدحًا له، كما ظن ذلك من ظنه، ومن تأمل سياق ألفاظ الحديث قطع بذلك.

وفي الترمذي (٥) وغيره (٦) عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «إِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الْبَلِيغَ مِنَ الرِّجَالِ، الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا يَتَخَلَّلُ الْبَقَرَةُ بِلِسَانِهَا» وفي المعني أحاديث كثيرة مرفوعة وموقوفة عَلَى عمر وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم من الصحابة.

فيجب أن يعتقد أنَّه ليس كل من كثر بسطه للقول وكلامه في العِلْم، كان ممن ليس كذلك.

وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنَّه أعلم ممن تقدم، فمنهم من يظن في شخص أنَّه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم؛ لكثرة بيانه ومقاله، ومنهم من يقول: هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين، وهذا يلزم منه ما قبله؛ لأنّ هؤلاء الفقهاء المشهورين المتبوعين أكثر قولا ممن كان قبلهم، فإذا كان من بعدهم أعلم منهم لاتساع قوله كان أعلم ممن كان أقل منهم قولاً بطريق الأولى، كالثوري والأوزاعي والليث وابن المبارك وطبقتهم، وممن قبلهم من التابعين والصحابة


(١) أخرجه عبد الرزاق (١١/ ١٦٣، ١٦٤) من مرسل مجاهد.
(٢) أخرجه مسلم (٨٦٦).
(٣) أخرجه البخاري (٣٥٦٧)، ومسلم (٢٤٩٣) كتاب الزهد والرقائق، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العِلْم.
(٤) أخرجه البخاري (٥١٤٦).
(٥) برقم (٢٨٥٣) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وفي الباب عن سعد.
(٦) أخرجه أحمد (٢/ ١٦٥، ١٨٧)، وأبو داود (٥٠٠٥).