للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وعالم العقل، فهو آخر الموجودات الطبيعية وأول الموجودات العقلية، وهو معرض لأن يعلو فيلحق بالملأ الأعلى، ويسفل فيلحق بالعالم الأدنى، وقد قلت في ذلك من الخفيف:

أنت وسط ما بين ضدين يا إنسان ... ركبت صورة في هيولى

أن عصيت الهوى علوت علواً ... أو أطعت الهوى سفلت سفولا

فمن أجل أنه جمع في خلقته جميع ما في العالم الأكبر، صار مهيئاً بفطرته الفاضلة، مستعداً بقوته العاقلة لأن يتصور جميع ما في العالم الأكبر، وبيان ذلك أن مدركات الِإنسان صنفان: محسوسات ومعقولات، فالأشخاص هي المحسوسات وأنواعها وأجناسها، ومبادئها هي معقولاتها، وله إدراكان: إدراك بالحس للأشياء المحسوسات، وإدراك بالعقل للأشياء المعقولة لأن كل شيء إنما يدرك بشكله، فإدراكه المحسوسات يسمى كماله الأول وحياته الأولى، وإدراكه المعقولات يسمى كماله الثاني وحياته الأخيرة، فإذا كان العالم كله صنفين -محسوساً ومعقولاً- وكان كمال جوهر الإنسان بإدراكهما معاً، وكان مهيئاً بفطرته لذلك صار الإنسان إذا أدرك المحسوسات والمعقولات فقد تصور بصورة العالم الأكبر، فالإنسان إذاً يستحق أن يسمى عالماً صغيراً من وجهتين:

أحدهما: خلقة لا عمل له فيها.

والثاني: لاكتساب يكتسبه، إلاَّ أن سعادته إنما هي بالاكتساب وحصول العقل المستفاد (١)، وأما خلقته فإنما هي هيئة واستعداد جعل معرضاً بهما لنيل السعادة، إن فهم ذاته وعلم مرتبته من العالم نجا وسعد، وإن جهل ذاته ولم يعرف ما الغرض بكونه آخر الموجودات هلك وطال شقاؤه، ولذلك قال


(١) العقل المستفاد عند الفلاسفة هو عبارة القوة النظرية حالة كونها عالمة ومدركة كحال الإنسان عند كتابته، وبعبارة أخرى: هو أن تحضر عنده النظريات التي أدركها بحيث لا تغيب عنه.
انظر: الآمدي: المبين عن معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين: ٦٣، الجرجاني: التعريفات: ٨١.

<<  <   >  >>