" ... وقد كان علم الألفاظ والمقاطع ومدلولاتها عند الصدر الأول، لأنهم كانوا عرباً عرباً، يعرفون معاني الألفاظ ومقاطع الكلام، ثم اختلط الخلق حتى فسدت الألسن، وضلت القلوب عن الحقائق حتى فسدت المعاني. فتعين علينا والحالة هذه أن نبدأ بعلم الألفاظ على وجه دلالتها على مدلولها، وأن نعلم مقاطع التعبير عنها، وهي الفصاحة التي تميّز بها لسان العرب الذي ورد القرآن به، وهو الذي نحاول معرفته. فينبغي أن ينشأ الطفل على تعلم العربية ومقاطع الكلام، ويحفظ أشعار العرب وأمثالها، ويلقى إليه من الحساب ما يقيم به دينه ويكون دستوراً لعلم الفرائض واستخراج المعلوم من المجهول، ففيه منفعة في الدين وتمييز للأفهام. ويدرس القرآن المفصل عند استقلاله ببعض هذه المقاصد، حتى إذا روى من هذا الغرض، مشى إلى العالم فأقرأه بتفسيره ودرسه إياه بمعناه، ويأخذه به من أوله، فلا يخطيء في وجهين: أحدهما: أن يعلمه القرآن منكوساً، ولا يقرأه كذلك إلاَّ منكوس القلب. الثاني: أن يحفظ الصبي كتاب الله وهو لا يعقل منه حرفاً، فيتكلف استظهار ما لا طاقة له به، وإنما يمر عليه كالعربي يحفظ التوراة بالعبرانية، إن عقل الصبي منه بما يتصل به، ولا فهم ما تقتضيه فيما انتظمت معه ... ". قلت: وكان رأيه هذا مثار جدل بين العلماء، فمنهم من استحسنه ومنهم من استبعد بإمكانية تطبيقه، يقول ابن خلدون: " .. وهو لعمري مذهب حسن، إلاَّ أن العوائد لا تساعد عليه وهي أملك بالأحوال، ووجه ما اختصت به العوائد من تقدم دراسة القرآن إيثاراً للتبرك والثواب، وخشية ما يعرض للولد في جنون الصبا عن الآفات والقواطع عن العلم فيفوته القرآن؛ لأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم، فإذا تجاوز البلوغ وانحل من ربقة القهر، فربما عصفت به رياح الشيبة فألقته بساحل البطالة، فيغتنمون في زمان الحجر تحصيل القرآن لئلا يذهب خلواً منه، ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم وقبوله التعليم، لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى مما أخذه به أهل المغرب والمشرق، ولكن الله يحكم بما شاء، لا معقب لحكمه سبحانه" المقدمة: ٤/ ١٣٦٢ - ١٣