للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مالك، يقول القاضي عياض في هذا الصدد: "ولم يزل (المذهب المالكي) يفشو إلى أن جاء سحنون (ت: ٢٤٠) فغلب في أيامه، وفضّ حلق المخالفين، واستقر المذهب بعده في أصحابه فشاع في تلك الأقطار إلى وقتنا هذا" (١).

قلت: إن هذا الانفراد لمذهب مالك في الفقه جعل الناس يؤثرونه ويتشبثون به، وتكونت له في نفوسهم منزلة جعلتهم يطرحون كل المذاهب الأخرى سواه، وقد يعمدون إلى مضايقة من يعتنقها، وفي هذا يقول المقدسي: "أما في الأندلس فمذهب مالك وقراءة نافع وهم يقولون لا نعرف إلاَّ كتاب الله وموطأ مالك، فإن ظهروا على حنفيّ أو شافعيّ نفوه ... " (٢) وربما ضاق التمسك بالمذهب المالكي إلى حد الأخذ برواية من رواياته والاكتفاء بها دون غيرها، وهو ما ذكره أحمد بابا التنبكتي نقلاً عن أبي موسى بن الِإمام (ت: ٧٤٩) من أن أهل الأندلس في قرطبة شرطوا أن لا يخرج القاضي عن قول ابن القاسم (ت: ١٩١) ما وجدوه، احتياطاً ورغبة في صحة الطريق الموصل لمذهب مالك (٣). ويبدو أن التمسك بمذهب مالك بلغ درجة استحال معها في بعض الأحيان إلى نوع من التعصب الممقوت، وهو ما صوّره ابن حزم الظاهري في قوله: "قد وصل أهل الأندلس في تقليد مالك حتى يعرضوا كلامه تعالى وكلام رسوله على مذاهب إمامهم، فإن وافقاه قبلوهما وإلّا طرحوهما، وأخذوا بقول صاحبهم، مع أنه غير معصوم، ولا نعلم بعد الكفر بالله معصية أعظم من هذا" (٤).


(١) ترتيب المدارك: ١/ ٥٤ (ط: بيروت)، ١/ ٢٥، (ط: الرباط)، قلت وهذا لا يمنع من وجود بعض الأفراد الذين تمذهبوا بمذهب سفيان الثوري والشافعي وغيرهم من الأئمة المجتهدين: انظر المصادر السابقة.
(٢) أحسن التقاسيم: ٢٣٦ (ط: ليدن).
(٣) نيل الابتهاج: ١٩١.
(٤) ن، م: ١٩١، وقد وصل الحد بفقهاء!! الأندلس المتعصبين للمالكية إلى المغالاة حيث قال أصبغ بن خليل القرطبي (ت: ٢٧٣): "لأن يكون في تابوتي رأس خنزير أحب إليّ من أن يكون فيه مسند ابن أبي شيبة" ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس، الترجمة رقم: ٢٤٧.

<<  <   >  >>