وأما أهل الحق فإنهم جعلوا هذه المعارف سبباً لاستحقاق الجنة، لا عين الجنة، وعلى كل مذهب؛ ففواكه الجنة لا تعين بالطريق التي ذكرتها، وهذا التحقيق إذا كان لا تحتمله عقول الخلق وأفهامهم القاصرة، فينبغي ألاّ يتعرض له، فإنهم لما ألفوا في الدنيا أن الشيء لا يحصل في نفوسهم إلاَّ بالانتقال، لم يفهموا أمور الجنة إلّا كذلك، لا أن الشيء عندهم هو الأجسام، وذهلوا عن مثال المعرفة والمرآة كما ذكرت، وأما امتناع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أخذه، وامتناع فواكه الجنة في الدنيا، فكامتناع صورة المرآة في الجهة بدلًا عن العين وذلك غير ممكن، لأن الصفة التي تتهيا بها الحدقة لقبول صور المرئيات لا توجد في الجهة، فكذلك الصفة التي بها يحصل إدراك عالم الآخرة غير حاصلة في النفس قبل الموت، وإن كانت حاصلة فهي محجوبة بالأجفان المغمضة بعضها ببعض، فإنه لا يتصور أن تقبل صور المرئيات ما لم يرتفع الحجاب وهذه الشهوات، وأما النفس في هذا العالم فهي حجاب عن إدراك عالم الآخرة وما فيها، وقد ينقشع هذا الحجاب على الندور بهبوب رياح العطف لمن تعرض لنفحات الرحمة بتصفية باطنه وقطع هَمِّهِ عن الدنيا، وإقباله على الله تعالى بكنه همّته، فيكون ذلك الانقشاع في لحظة كالبرق الخاطف، ثم يعود ولكن يظهر في تلك اللحظة ما ظهر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عرض الحائط، ومن انقشع عن هذا الحجاب فهو الذي سمي نبياً أو ولياً وقوله عليه السلام: "لَوْ أخَذْتُهُ لأكَلْتمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا" معناه أنه في نفسه مِمَّا لا يفنى، وليس الأكل منه بطريق نقلة وإفناء، بل بطريق أنه فياض بأمثاله على الأرواح فيضاً لا ينقطع، فلو انتقل إلى الدنيا لبقي على حاله، ولكن انتقاله غير ممكن". المعيار: ١١/ ٢٥ - ٢٧.