وإننا اليوم بحاجة ماسّة إلى إحياء ما درس من معالم ثقافتنا، وتبيان ما طمس من آثارها. والكشف عن منابع الحق فيها، نستخرج منها ذكريات العزة، وصفحات المجد، وآيات الفخار.
وقد كان لتلميذي محمد -وهو الخبير بنوادر الكتب والمخطوطات- في تَخَيُّر هذا الكتاب الذي أقدم على نشره وتحقيقه، منهج معين وقصد مرسوم، ولم يكن اختياراً جاء عفو الخاطر أو ولّدته اللّمحة الخاطفة. وإنما كان اختياراً أنتجته الأناة والتروي، وأملته مصلحة الأمة، وفرضته اعتبارات الصحوة الِإسلامية المباركة.
وقد قدم لنا الأستاذ محمد بمقدمة لقانون التأويل فيها من صدق العرض واستواء القصد وبلوغ الهدف ما يكشف عن حقيقة الكتاب وضرورته للمكتبة الِإسلامية، وأشهد لهذه المقدمة بأنها استقصت من أخبار ابن العربي كثيراً، وتلك يد لمحمد على التراث الِإسلامي، وهي أخرى على التاريخ، ولو قد يسّر الله لكل عالم من علماء أمتنا الِإسلامية باحثاً ذا جلد وصبر ومعرفة وأمانة في الاطلاع ودقة في التحري كما يسر الله لابن العربي، لما أضلت الأمة الإِسلامية مسجد علمائها ومفكريها، فجزاه الله عن العلم كل خير.
وكتاب "قانون التأويل" هو للقاضي أبي بكر بن العربي، ويعد هذا الإِمام في طليعة العلماء الذين أخذوا من كل فن بسهم وافر، ولم يقف بنفسه عند حد المعرفة والتعليم، بل اقتحم ميدان التأليف الموفّق، فكان من نخبة الكتّاب المجيدين، بل من أغزرهم مادة، وأطولهم باعاً، وأمضاهم سليقة، وأحضرهم بياناً، متبحر في الفقه وأصوله، بصير بعلم الكلام، خبير بمشكلاته، متصرف في دقائقه.
وقد كَبُرَ ابن العربي في عيني، ووقع في نفسي موقعاً جليلاً، منذ أن قرأت كتابه النفيس "العواصم من القواصم" الذي رد فيه على الفلاسفة وغلاة الصوفية والجهلة من المؤرخين، فكان لكتابه هذا المزية الظاهرة والغرة