فَمَنْ نَفَى الصَّانِعَ
ــ
[مغني المحتاج]
{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: ٦٥] {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: ٦٦] وَكَانَ الْأَوْلَى تَأْخِيرَ الْقَوْلِ فِي كَلَامِهِ عَنْ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ التَّقْسِيمَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِذَلِكَ مَنْ سَبَقَ لِسَانُهُ إلَى الْكُفْرِ، أَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُرْتَدًّا، وَكَذَا الْكَلِمَاتُ الصَّادِرَةُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ فِي حَالِ غَيْبَتِهِمْ، فَفِي أَمَالِي الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّ الْوَلِيَّ إذَا قَالَ: أَنَا اللَّهُ عُزِّرَ التَّعْزِيرَ الشَّرْعِيَّ، وَلَا يُنَافِي الْوِلَايَةَ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْصُومِينَ، وَيُنَافِي هَذَا قَوْلَ الْقُشَيْرِيِّ: مِنْ شَرْطِ الْوَلِيِّ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا، كَمَا أَنَّ مِنْ شَرْطِ النَّبِيِّ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا، فَكُلُّ مَنْ كَانَ لِلشَّرْعِ عَلَيْهِ اعْتِرَاضٌ فَهُوَ مَغْرُورٌ مُخَادِعٌ، فَالْوَلِيُّ الَّذِي تَوَالَتْ أَفْعَالُهُ عَلَى الْمُوَافَقَةِ، وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ سُرَيْجٍ عَنْ الْحُسَيْنِ الْحَلَّاجِ لِمَا قَالَ: أَنَا الْحَقُّ فَتَوَقَّفَ فِيهِ وَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ خَفِيَ عَلَيَّ أَمْرُهُ وَمَا أَقُولُ فِيهِ شَيْئًا، وَأَفْتَى بِكُفْرِهِ بِذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو عَمْرٍو وَالْجُنَيْدُ وَفُقَهَاءُ عَصْرِهِ، وَأَمَرَ الْمُقْتَدِرُ بِضَرْبِهِ أَلْفَ سَوْطٍ، فَإِنْ مَاتَ، وَإِلَّا ضُرِبَ أَلْفًا أُخْرَى، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ قُطِعَتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ ثُمَّ يُضْرَبُ عُنُقُهُ، فَفُعِلَ بِهِ جَمِيعَ ذَلِكَ لِسِتٍّ بَقَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَالنَّاسُ مَعَ ذَلِكَ مُخْتَلِفُونَ فِي أَمْرِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُبَالِغُ فِي تَعْظِيمِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَفِّرُهُ لِأَنَّهُ قُتِلَ بِسَيْفِ الشَّرْعِ، وَجَرَى ابْنُ الْمُقْرِي تَبَعًا لِغَيْرِهِ عَلَى كُفْرِ مَنْ شَكَّ فِي كُفْرِ طَائِفَةِ ابْنِ عَرَبِيٍّ الَّذِينَ ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ عِنْدَ غَيْرِهِمْ الِاتِّحَادُ وَهُوَ بِحَسَبِ مَا فَهِمُوهُ مِنْ ظَاهِرِ كَلَامِهِمْ، وَلَكِنَّ كَلَامَ هَؤُلَاءِ جَارٍ عَلَى اصْطِلَاحِهِمْ، إذَا اللَّفْظُ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ حَقِيقَةٌ فِي مَعْنَاهُ الِاصْطِلَاحِيِّ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ، وَالْمُعْتَقِدُ مِنْهُمْ لِمَعْنَاهُ مُعْتَقِدٌ لِمَعْنًى صَحِيحٍ.
وَأَمَّا مَنْ اعْتَقَدَ ظَاهِرَهُ مِنْ جَهَلَةِ الصُّوفِيَّةِ فَإِنَّهُ يَعْرِفُ، فَإِنْ اسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ تَعْرِيفِهِ صَارَ كَافِرًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا أَيْضًا فِي كِتَابِ السِّيَرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَخَرَجَ أَيْضًا مَا إذَا حَكَى الشَّاهِدُ لَفْظَ الْكُفْرِ، لَكِنَّ الْغَزَالِيَّ ذَكَرَ فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حِكَايَتُهُ إلَّا فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَلْيُتَفَطَّنْ لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: أَوْ قَوْلُ كُفْرٍ فِيهِ دَوْرٌ، فَإِنَّ الرِّدَّةَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْكُفْرِ فَكَيْفَ يَقُولُ أَوْ قَوْلُ كُفْرٍ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُفْرِ فِي الْحَدِّ الْكُفْرُ الْأَصْلِيُّ.
تَنْبِيهٌ: كَانَ الْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ بِنِيَّةِ كُفْرٍ أَوْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ لِيَكُونَ حَذْفَ لَفْظَةِ كُفْرٍ مِنْ الْآخَر لِدَلَالَةِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَتَعْبِيرُهُ لَا يَتَنَاوَلُ كُفْرَ الْمُنَافِقِ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ إسْلَامٌ صَحِيحٌ (فَمَنْ نَفَى) أَيْ أَنْكَرَ الصَّانِعَ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَهُمْ الدَّهْرِيَّةُ الزَّاعِمُونَ أَنَّ الْعَالَمَ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا كَذَلِكَ بِلَا صَانِعٍ. فَإِنْ قِيلَ: إطْلَاقُ (الصَّانِعِ) عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَرِدْ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ عِبَارَاتِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُجَوِّزِينَ الْإِطْلَاقَ بِالِاشْتِقَاقِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ أَسْمَاءَهُ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ:.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْبَيْهَقِيَّ رَوَاهُ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَقَالَ تَعَالَى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: ٨٨] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ صَنَعَ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهُ» رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي أَوَائِلِ الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَقَالَ: إنَّهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ أَوْ نَفَى مَا هُوَ ثَابِتٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْإِجْمَاعِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، أَوْ أَثْبَتَ مَا هُوَ مَنْفِيٌّ عَنْهُ بِالْإِجْمَاعِ كَحُدُوثِهِ أَوْ قِدَمِ الْعَالَمِ كَمَا قَالَهُ الْفَلَاسِفَةُ قَالَ الْمُتَوَلِّي: أَوْ أَثْبَتَ لَهُ لَوْنًا، أَوْ اتِّصَالًا، أَوْ انْفِصَالًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute