لَكِنْ إنْ خَالَفَ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عَلَى الْمُرَجَّحِ.
ــ
[مغني المحتاج]
وَلِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ إذْ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالُوا: هَذَا أَبُو إسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ وَلَا يَقْعُدَ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ. قَالَ: مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ «الْمَرْأَةِ الَّتِي قَالَتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ: إنِّي نَذَرْت أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأْسِك بِالدُّفِّ، فَقَالَ لَهَا: أَوْفِ بِنَذْرِك» ، بِأَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ السُّرُورُ لِلْمُسْلِمِينَ بِقُدُومِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَغَاظَ الْكُفَّارَ، وَأَرْغَمَ الْمُنَافِقِينَ كَانَ مِنْ الْقُرَبِ، وَلِذَلِكَ اُسْتُحِبَّ ضَرْبُهُ فِي النِّكَاحِ لِيَخْرُجَ عَنْ مَعْنَى السِّفَاحِ؛ وَفُسِّرَ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا الْمُبَاحُ بِمَا لَمْ يُرِدْ فِيهِ تَرْغِيبٌ وَلَا تَرْهِيبٌ، وَزَادَ فِي الْمَجْمُوعِ عَلَى ذَلِكَ: وَاسْتَوَى فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ شَرْعًا كَنَوْمٍ وَأَكْلٍ، وَسَوَاءٌ أَقُصِدَ بِالنَّوْمِ النَّشَاطُ عَلَى التَّهَجُّدِ، وَبِالْأَكْلِ التَّقَوِّي عَلَى الْعِبَادَةِ أَمْ لَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ كَمَا اخْتَارَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَصَوَّبَهُ الزَّرْكَشِيُّ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَالثَّوَابَ عَلَى الْقَصْدِ لَا الْفِعْلِ، وَأَمَّا النِّكَاحُ فَقَدْ مَرَّ فِي بَابِهِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْمُقْرِي هُنَا، وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إذَا كَانَ مَنْدُوبًا، وَفِي فَتَاوَى الْغَزَالِيِّ أَنَّ قَوْلَ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي إنْ خَرَجَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَهَبَك أَلْفًا لَغْوٌ، لِأَنَّ الْمُبَاحَ لَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ، لِأَنَّ الْهِبَةَ وَإِنْ كَانَتْ قُرْبَةً فِي نَفْسِهَا إلَّا أَنَّهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَيْسَتْ قُرْبَةً وَلَا مُحَرَّمَةً فَكَانَتْ مُبَاحَةً كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمُقْرِي.
وَالْأَوْجَهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا انْعِقَادُ النَّذْرِ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ؟ . ثُمَّ اسْتَدْرَكَ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ نَذْرِ الْمُبَاحِ بِقَوْلِهِ (لَكِنْ إنْ خَالَفَ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ عَلَى الْمُرَجَّحِ) فِي الْمَذْهَبِ كَمَا فِي الْمُحَرَّرِ؛ لِأَنَّهُ نَذْرٌ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنَّ الْأَصَحَّ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَالشَّرْحَيْنِ وَصَوَّبَهُ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ لِعَدَمِ انْعِقَادِهِ. فَإِنْ قِيلَ: يُوَافِقُ الْأَوَّلُ مَا فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا مِنْ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَك أَوْ أَنْ آكُلَ الْخُبْزَ، أَوْ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَدْخُلَ الدَّارَ فَإِنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً فِي ذَلِكَ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْأَوَّلَيْنِ فِي نَذْرِ اللَّجَاجِ وَكَلَامُ الْمَتْنِ فِي نَذْرِ التَّبَرُّرِ، وَأَمَّا الْأَخِيرَةُ فَلُزُومُ الْكَفَّارَةِ فِيهَا مِنْ حَيْثُ الْيَمِينُ لَا مِنْ حَيْثُ النَّذْرِ.
تَنْبِيهٌ: سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ نَذْرِ الْمَكْرُوهِ كَصَوْمِ الدَّهْرِ غَيْرِ الْعِيدِ وَالتَّشْرِيقِ لِمَنْ خَافَ بِهِ ضَرَرًا أَوْ فَوْتَ حَقٍّ هَلْ يَنْعَقِدُ أَوْ لَا؟ قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ: يَنْعَقِدُ وَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ كَلَامُ الْمُتَوَلِّي يُفْهِمُ عَدَمَ الِانْعِقَادِ، وَأَشَارَ إلَيْهِ الرَّافِعِيُّ تَفَقُّهًا، لِأَنَّ النَّذْرَ تَقَرُّبٌ، وَالْمَكْرُوهَ لَا يُتَقَرَّبُ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ اهـ.
وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمُبَاحَ لَا يَنْعَقِدُ، فَالْمَكْرُوهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، أَمَّا إذَا لَمْ يَخَفْ بِهِ فَوْتَ حَقٍّ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فَيَنْعَقِدُ، فَإِذَا نَذَرَ صَوْمًا بَعْدَهُ لَمْ يَنْعَقِدْ؛ لِأَنَّ الزَّمَنَ مُسْتَحَقٌّ لِغَيْرِهِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ صِحَّةِ نَذْرِ صَوْمِ الدَّهْرِ رَمَضَانُ أَدَاءً وَقَضَاءً وَالْعِيدَانِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَكَفَّارَةٌ تَقَدَّمَتْ نَذْرَهُ، فَإِنْ تَأَخَّرَتْ عَنْهُ صَامَ عَنْهَا وَفَدَى عَنْ النَّذْرِ، وَيَقْضِي فَائِتَ رَمَضَانَ، ثُمَّ إنْ كَانَ فَوَاتُهُ بِلَا عُذْرٍ فَدَى عَنْ صَوْمِ النَّذْرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute