الإسراء:{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}، ذلك أن الإنسانية الضالة التي أراد الله ان يخرجها من الظلمات إلى النور لا يمكن ان تقفز من حضيض الجهالة الجهلاء، إلى أعلى درجة في السمو والارتقاء، بين عشية وضحاها، إذ لا بد لتحولها عما كانت عليه، وتطورها إلى ما يجب أن تؤول إليه، من وقت كاف تستوعب فيه يوما بعد يوم، ما جاء به القرآن الكريم من عقيدة وشريعة وأخلاق، فقوله تعالى في خطابه لنبيه في سورة الإسراء:{لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} يفيد ان حكمة الله اقتضت أن يكون تبليغ القرآن إلى الناس على مهل، تدريجيا ودون عجلة، حتى يحفظوه ويعوه، ويرتاضوا به ويتبعوه، ويسايروه في حياتهم خطوة خطوة.
وقوله تعالى في نفس السياق:{وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} يشير إلى أن حكمة الله اقتضت أن يكون تنزيل القرآن على فترات، ليواجه ما يتجدد في حياة الناس من حوادث ومسائل وشبهات، إذ لا يخفى على أحد ما تزخر به الحياة اليومية في مثل هذه المرحلة الانتقالية الدقيقة من إلقاء أسئلة محرجة تحتاج إلى الأجوبة الشافية، ومن وقوع حوادث معقدة تتوقف على الحلول الكافية، فتنزل آيات القرآن مفرقة تبعا لذلك في الوقت المناسب بما هو مناسب، تثبيتا لفؤاد الرسول والمرسل إليهم، وتأنيسا له ولهم في آن واحد، الأمر الذي يكون أوقع في النفوس، لما فيه من تجاوب ملموس، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى في هذا الربع {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}.