وواضح أن هذه القرية ليست هي القرية الأولى والوحيدة التي وقف أصحابها في وجه الرسل ورسالاتهم، فهذا النوع من المواقف تجدد كما تجددت الرسالات عبر العصور والأجيال، والعبرة في القصة بالمواقف التي سجلتها، لا بالمكان الذي وقعت فيه، إذ ليست للمكان في هذا المقام أدنى خصوصية مميزة.
وانتقل كتاب الله إلى حكاية الشق الثاني من قصة أصحاب القرية، وهو ما يتعلق بمواطن آمن بالله وبرسله، فانطلق يدعو قومه إلى إتباع الرسل واعتناق دينهم، ويعلن أمام الملأ سفاهة ما عليه قومه من الشرك والضلال، فلم يلبثوا أن ضاقوا به وبدعوته ذرعا، وقضوا عليه وعليها قضاء مبرما، لكن الحق سبحانه وتعالى أكرمه بدخول الجنة جزاء إيمانه وصدعه بالحق، وما كان يحل بدار النعيم حتى أخذ يتمنى على الله أن يعرف قومه المنزلة الرفيعة التي أنزله فيها، عسى أن يؤمنوا بمثل ما آمن به، ويفوزوا بمثل ما فاز به من النعيم المقيم، وذلك حرصا منه على نجاتهم وسعادتهم، وقد حقق الله أمنيته عندما سجل قصته في كتابه العزيز من بدايتها إلى نهايتها، ليعرفها السلف والخلف، ويلاحظ في الشق الثاني من هذه القصة ذكر لفظ (المدينة)، بدلا من لفظ (القرية) الوارد في الشق الأول، وليس في هذا الاستعمال أي إشكال، لأن لفظ (القرية) في لسان العرب يستعمل في غير ما موضع مرادفا للفظ (المدينة)، وإلى قصة هذا المؤمن السعيد يشير قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ