ومضى كتاب الله ينذر الذين ضلوا سواء السبيل، بالطمس والمسخ في الآخرة، جزاء ما ارتضوه لأنفسهم في الدنيا من انطماس البصائر والأبصار، وتعطيل العقول وفساد الأفكار، فقال تعالى:{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ}، ومن كان عديم الإرادة مشلول الحركة كيف يخترق الصفوف وسط الزحام، ولاسيما عندما تلتف الساق بالساق، ومن كان مطموس العين فاقد البصر كيف يجتاز الصراط الذي هو " أرق من الشعرة وأحد من السيف "، بل كيف ينجح مثله في مثل هذا السباق؟ ألم يقل الحق سبحانه وتعالى في آية سابقة:{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا}(٧٢: ١٧).
ومن الإنذار بالمسخ الذي هو تبديل خلقة الإنسان، وقلبها إلى جماد أو حيوان، مما يعد عقابا إلهيا صارما، انتقل كتاب الله إلى وصف ما يتعرض له المعمرون الذين طال عليهم العمر في أغلب الأحيان، سواء كانوا أبرارا أو فجارا، مؤمنين أو كفارا، فقال تعالى:{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ}، أي: رددناه بعد القوة إلى الضعف، وبعد النشاط إلى العجز، وبعد الشباب إلى الهرم، وهذه الحالة يصدق عليها معنى النكس والانتكاس، يقال: نكست الشيء فانتكس إذا قلبته على رأسه، ووصف كتاب الله في سورتين سابقتين هذه الحالة " بأرذل العمر "، لما يعتورها من التراجع والتناقص في القوى والملكات، على العكس من " أفضل