وعلى ضوء هذا التفسير ينبغي أن نفهم قوله تعالى:{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} على غرار الآية السابقة {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} أما التدخل في شؤونهم الملية أو عدمه فهو مرتبط بطلبهم الخاص ورغبتهم الخاصة، كما يدل عليه قوله تعالى:{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}.
ثم وجه كتاب الله خطابه إلى الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام، آمرا له بالحكم بين اليهود بعضهم مع بعض، وبين النصارى بعضهم مع بعض، إذا جاؤوا إليه طالبين تدخله وحكمه، على أن لا يتأثر حكمه عليهم بأي اعتبار خارج عن مقتضى العدل المجرد والحق الصراح {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ}.
وعقب على ذلك بما معناه أنه بعد إقامة الحجة على صدق الدين الحق الذي هو دين الإسلام، ودعوة اليهود والنصارى إلى الدخول فيه، وامتناع من امتنع منهم، وإصراره على الاحتفاظ بيهوديته أو نصرانيته، لم يبق أمام الإسلام بالنسبة للمصرين على ما هم فيه إلا موقف واحد، هو موقف السماح لهم بالبقاء على دينهم والتحاكم إلى كتابهم، فلليهود توراتهم، وللنصارى إنجيلهم، وذلك قوله تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.