السياق انتقل كتاب الله مباشرة إلى وصف دقيق فيه تبكيت وتنكيت ينطبق على المشركين والمنفقين الذين نهى الله المؤمنين عن اتباعهم وسلوك مسلكهم، وفي ذلك تحذير من نفس السلوك، فقال تعالى في شأنهم، تقريعا وتوبيخا، في بداية هذا الربع:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} أي الصم عن سماع الحق، لأنهم لا يستجيبون له، وإن قالوا سمعنا فهم لا يسمعون، والبكم عن الاعتراف بالحق - رغما عن تلقيه - لأنهم يمتنعون من ذكره وترديده.
وتعبير كتاب الله عن هذا الصنف من الخلق بكلمة {شر الدواب} مناسب لما لهم عليه كل المناسبة، فهم يشبهون الحيوانات العجماء في كونها لا تدرك عن طريق الاستماع بآذانها إلى كلام الناس إلا أصواتا غامضة تعجز كل العجز عن فهمها والإلمام بمعانيها، وهم يشبهون الحيوانات العجماء في كونها - وإن كان لها لسان- إلا أنها لا يصل منها إلى الغير إلا نبرات صوتية، لا قيمة لها ولا أهمية، وما دامت آذان هذا الصنف من الناس حين تسمع لا تنقل ما تسمعه إلى قلوبهم، وما دامت ألسنتهم حين تنطق إنما تهرف بما لا تعرف دون وعي ولا شعور، فآذانهم وألسنتهم أشبه ما تكون بآذان الدواب العجماء وألسنتها، وهم بسبب ذلك أدخل في عالم البهائم وأعرق، وأبعد من عالم الإنسان كل البعد. وسبق قوله تعالى في مثل هذا المقام:{أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.
قال القاضي عبد الجبار في كتابه (تنزيه القرآن عن المطاعن)