الرسل غالبا من الفقر والخصاصة والزهد، فيظنون بهم الظنون، ويخيل إليهم أنهم طلاب مال وغنى، وعشاق رفاهية ونفوذ، ولذلك يضطر الأنبياء والرسل إلى الرد على المترفين من قومهم بمثل هذا الرد القاطع الصريح، حفظا للدعوة من تسرب الأعداء إليها، وقطعا لكل أمل في قطع الطريق عليها.
ومما رد به نوح على كبار قومه حيث اعتبروه غير أهل للرسالة، لكونه بشرا مثلهم، أنه برغم بشريته مرسل إليهم من عند الله، فهو (بشر رسول)، لأن الرسالة لا تتنافى مع البشرية مطلقا، بل هي تشريف لها، وتكريم للمنتمين إليها، وهي أعلى درجة يمنحها الله للبشر. ونفى لهم نفيا قاطعا أن يكون ملكا، أو أن يشارك الله في علم الغيب، فعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، كما نفى نفيا باتا أن يتصرف في ملك الله وخزائنه الواسعة تصرفا خاصا، لا من قريب ولا من بعيد، لأن المتصرف في خزائن الكون هو الله وحده لا شريك له، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام:{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ}. وبهذه الردود الصريحة الواضحة اتضحت طبيعة الرسالة على حقيقتها منذ أقدم العهود، واتضحت خصائصها دون مبالغة ولا غلو ولا إغراق في الخيال، وإذا كان الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام يتبرأون من علم الغيب، ومن التصرف في الكون، ويفردون الله بهما دون سواه، فأولى بغيرهم من بقية الناس أن لا يدعوا ذلك لأنفسهم، وأن لا يُدَّعَى لهم.