ثم وصف كتاب الله نداء نوح لابنه الذي أصر على الكفر، وما دار بينهما من حوار مؤثر في تلك الفترة العصيبة. ومنه يبدو الصراع الداخلي الذي كان قائما بين عاطفة نوح بصفته مجرد (أب عادي)، وواجبه بصفته (رسولا عن الله). فقد ظن نوح عليه السلام أن الاستثناء الذي ورد في قوله تعالى:{إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} بعد قوله تعالى: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} إنما هو منصب على ما أمر بحمله معه من أصناف الأحياء المختلفة، بمعنى أن منها ما أذن الله بحمله معه في السفينة ليستمر بقاؤه في العالم، ومنها ما سبق عليه القضاء بالغرق والانقراض نهائيا، ولم يعتقد نوح عليه السلام أن الاستثناء الوارد في قوله تعالى:{إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} منصب حتى على أهله أنفسهم، فمنهم من أذن له بأخذه في السفينة، كأبنائه الثلاثة:(سام وحام ويافث)، ومنهم من لا حظ له فيها كامرأة نوح وابنه الرابع (يام).
وبمقتضى هذا التأويل أخذ نوح ينادي ابنه ليفارق الكافرين من قومه، ويلتحق به في " سفينة النجاة "، فما كان من ابنه المصر على الكفر إلا أن فضل البقاء حيث هو، ظانا أن في إمكانه النجاة من الطوفان إذا اعتصم بالجبل.
ولم يسَعْ نوحاً - وهو الناصح الأمين الذي طالما أسدى النصح للبعيد والقريب - إلا أن يجدد النصح لابنه، ويؤكد له أنه لا عاصم يعصمه من عذاب الله، وأن الطوفان سيدرك الجميع لا محالة، ولا تنجو منه إلا سفينة النجاة التي صنعها نوح بوحي من