فقد رأينا كيف من الله على نوح بنجاة أهله، وأمره بحمل أهله معه في " سفينة النجاة ". قائلا:{احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ}، وقد رأينا كيف دعا نوح ابنه الذي لم يؤمن بالله إلى مفارقة كفار قومه، واللحاق به في السفينة، باعتباره داخلا في (أهله)، وقد رأينا كيف نادى نوح ربه قائلا {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}، إلا أن الحق سبحانه وتعالى رد على نبيه نوح عليه السلام ردا قاطعا وصارما، {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}. ثم بين الحق سبحانه وتعالى حيثية ذلك الحكم الإلهي الذي لا معقب له، وأوضح الحكمة المتوخاة منه، حتى لا يبقى حكما غامضا، فقال تعالى:{إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} مما ألقى الأضواء على نوع العلاقة التي لها اعتبار في نظر الشارع، والعلاقة التي لا اعتبار لها، أو لها اعتبار ثانوي جدا.
فهذه الآية تنص صراحة على أن قرابة العقيدة والإيمان هي القرابة الحقيقية والوحيدة، التي لها الاعتبار الأول بين الأقرباء في تكافلهم وتعاونهم، وتحديد مصيرهم المشترك، فإذا انتفت هذه القرابة الروحية والدينية بينهم كانت قرابة الدم المادية في الدرجة الأخيرة من الاعتبار، أو لا اعتبار لها بالمرة، لأن طابع البنوة الصحيح هو أن يكون الابن وارثا سر أبيه، يرث منه خير خصاله، وأفضل خلاله، والروحية منها قبل المادية، فتتصل به سلسلة الصلاح ولا تنقطع، وتنتقل الأمانة عن طريقه من جيل إلى جيل. وهكذا يصبح ابنك الروحي في العقيدة أو أخوك الروحي في الإيمان هو ابنك الحقيقي وأخوك الحق الذي تعتمد عليه بعد الله