قال ابن قدامة رحمه الله في المغني (٥/ ٢٢): قال: (ونهي عن تلقي الركبان)؛ فإن تُلُقُّوا، واشتُرِي منهم، فهم بالخيار إذا دخلوا السوق، وعرفوا أنهم قد غُبِنوا؛ إن أحبوا أن يفسخوا البيع فسخوا.
روي أنهم كانوا يتلقون الأجلاب، فيشترون منهم الأمتعة قبل أن تهبط الأسواق، فربما غبنوهم غبناً بيناً، فيضرونهم، وربما أضروا بأهل البلد؛ لأن الركبان إذا وصلوا باعوا أمتعتهم، والذين يتلقونهم لا يبيعونها سريعاً، ويتربصون بها السِّعر، فهو في معنى بيع الحاضر للبادي، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك.
وروى طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلقوا الركبان، ولا يبع حاضر لباد»، وعن أبي هريرة مثله، متفق عليهما.
وكرهه أكثر أهل العلم، منهم عمر بن عبد العزيز ومالك والليث والأوزاعي والشافعي وإسحاق.
وحكي عن أبي حنيفة أنه لم ير بذلك بأسا.
وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبع.
فإن خالف، وتلقى الركبان، واشترى منهم، فالبيع صحيح في قول الجميع. وقاله ابن عبد البر. وحكي عن أحمد رواية أخرى، أن البيع فاسد لظاهر النهي.
والأول أصح؛ لأن أبا هريرة روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تلقوا الجَلَب، فمن تلقّاه، واشترى منه، فإذا أتى السوق فهو بالخيار». رواه مسلم، والخيار لا يكون إلا في عقد صحيح، ولأن النهي لا لمعنى في البيع، بل يعود إلى ضرب من الخديعة يمكن استدراكها بإثبات الخيار، فأشبه بيع المُصرّاة، وفارق بيع الحاضر للبادي، فإنه لا يمكن استدراكه بالخيار، إذ ليس الضرر عليه، إنما هو على المسلمين.
فإذا تقرر هذا، فللبائع الخيار إذا علم أنه قد غُبِن.
وقال أصحاب الرأي: لا خيار له.
وقد روينا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا، ولا قول لأحد مع قوله.
وظاهر المذهب: أنه لا خيار له إلا مع الغبن؛ لأنه إنما ثبت لأجل الخديعة ودفع الضرر، ولا ضرر مع عدم الغَبْن، وهذا ظاهر مذهب الشافعي، ويحمل إطلاق الحديث في إثبات الخيار على هذا؛ لعلمنا بمعناه ومراده؛ لأنه معنى يتعلق الخيار بمثله، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل له الخيار إذا أتى السوق، فيفهم منه أنه أشار إلى معرفته بالغبن في السوق، ولولا ذلك لكان الخيار له من حين البيع.
ولم يُقدّر الخِرقي الغبن المُثبِت للخيار، وينبغي أن يتقيد بما يخرج عن العادة؛ لأن ما دون ذلك لا ينضبط ... انتهى