وقد سَبَقَ أَنْ ناقَشْنا الفادي في زعمهِ أَخْذَ القرآنِ تشريعاتِه من الجاهلية.
صحيحٌ أَنَّ العربَ الجاهليّين كانوا يُحَرِّمونَ القتالَ في الأَشْهُرِ الحُرُم، لكنَّ هذا ليسَ تشريعاً منهم، وإِنما أَخَذوهُ عن شريعةِ إِسماعيلَ - عليه السلام -، ضمنَ الكثيرِ من الموروثاتِ الدينيةِ التي وَرِثوها عنه - عليه السلام -، كالحَجِّ إِلى الكعبة..
ولكنَّهم تَلاعَبوا بحرمةِ الأَشهرِ الحُرُمِ بالنسيء، فإِذا كانَتْ مصلحَتُهم بالقتالِ في أَحَدِ الأَشهرِ الحُرُم، نَسَؤُوا حُرْمَتَه إِلى شهرٍ آخَر.
وقد ذَمَّهم اللهُ بقولِه تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٣٧) .
ولما جاءَ الإِسلامُ حَرَّمَ النسيءَ الذي كان يمارسُه الجاهليّون، وثَبَّتَ
حرمةَ الأَشهرِ الأَربعةِ الحُرُم.
قال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) .
وقد أَكَّدَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على حُرمةِ الأَشهرِ الحُرُم، وثَبَّتَها، ومنعَ النَّسيءَ فيها، في خطبةِ الوَداع، التي أَلْقاها يومَ عرفةَ في حَجَّةِ الوداع.
روى البخاريُّ عن أَبي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - عن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: " إِنَّ الزمانَ قد اسْتَدار، كهيئَتِهِ يومَ خَلَقَ اللهُ السمواتِ والأَرض، السنةُ اثْنا عَشَرَ شَهْراً، منها أَربعةٌ حُرُمٌ، ثَلاثٌ مُتَواليات: ذو القعدةِ وذو الحجةِ والمحرم، ورجبُ مضرَ الذي بينَ جمادى وشعبان ".
وبهذا نَعرفُ أَنَّ القرآنَ لم يأخذْ تشريعَ حرمةِ الأَشهرِ الحُرُمِ عن الجاهليةِ
العربية، وإِنما هو تَشريعٌ ذاتيٌّ منه، توافَقَ مع شريعةِ إِسماعيل - عليه السلام -، على اعتبارِ أَنَّ شريعةَ إِسماعيلَ وشريعةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - عندِ الله.
وبهذا نعرفُ افتراءَ الفادي في قولِه: " فالإِسلامُ أَخَذَ هذا التحريمَ عن
عَرَبِ الجاهلية، ولم يَأتِ بجديد "!.