وكان نزولُ هذه الآيةِ بعد غزوةِ أُحُد، في السنةِ الثانيةِ من الهجرة، التي
جَرى فيها للمسلمين ما جَرى، وقد استشهدَ حمزةُ - رضي الله عنه -، بعد أَنْ بَقَرَ المشركونَ بَطْنَه ومَثَّلوا به.
وقد نَقَلَ الفادي عن البيضاويِّ أَنَّه لما رأى رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حمزةَ وقَدْ مُثِّلَ به، قال: " واللهِ لئن أَظْفَرني اللهُ بهم، لأَمَثِّلَنَ بسبعينَ منهم مكانَك "، فأنزلَ اللهُ الآية، وكَفَّرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن يمينِه.
وعَلَّقَ الفادي المغرضُ على ذلك بقولِه: " ونحنُ نَسأل: هل الأَخْذُ بالثأرِ
يُهَذّبُ النفسَ ويَحفظُ الأَمْن؟
إِنّنا نُعاني من عادةِ الأَخْذِ بالثأرِ ويلاتٍ مُرَّة..
قال المسيح: إِنَّ الذينَ يأخُذونَ السيفَ بالسيفِ يَهْلِكون..
وما أبعدَ الفرق بينَ قولِ محمدٍ: " والله لئن ظَفِرْتُ بهم لأُمَثلَنَّ بسبعينَ مكانك " وبين قولِ المسيح: إِنْ أَخْطَأَ إِليكَ أَخوكَ سبعينَ مَرَّةً سبْعَ مراتٍ فاغفِرْ له ".
تُبيحُ الآيةُ لمن اعْتُدِيَ عليه وعُوقِبَ وظُلِمَ من المسلمين أَنْ يَنتصفَ
ويَأخذَ حَقَّه ممنْ ظَلَمَه واعتدى عليه، وترشدُه إِلى ما هو أَوْلى، وهو الصبرُ
على الأذَى، والعفوُ عنِ العِقابِ.
واعترضَ الفادي على الآية، لأَنها تُبيحُ الأَخْذَ بالثأر، وهو ينشرُ الفَسادَ
ويُخَرّبُ الأَمْنَ، ولا يُهَذّبُ النَفْسَ.
والعِقابُ بالمثْل، والإِذْنُ بِرَدِّ الاعتِداء، ليسَ من بابِ الأَخْذِ بالثَّأْرِ " لأَنَّ
الأَخْذَ بالثأرِ عادَةٌ عشائرية، والعِقابُ بالمثْلِ مبدَأٌ إِسلامي، وفَرْقٌ بين الأَمْرَيْن.
ورغمَ أَنَّ القرآنَ أَجازَ الانتصافَ من الظالمِ والمعْتَدي إِلّا أَنَّه وَجَّهَ
المسلمينَ إِلى الأَفضل، وهو العَفْوُ والصفْح.
قالَ تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) .