للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُريدُ أَنْ يُلقيَ نفْسَه منه، فكلما وافى ذِرْوَةَ جَبَلٍ منهما كي يُلقي نفسَه، تَبَدّى له جبريل، فقالَ له: يا محمد! أَنت رسولُ الله حقاً، فيسكُنُ لذلك جأشُه، وتَقَرُّ عينُه، ويَرجع، وإِذا طالَتْ عليه فترةُ الوحيِ عادَ لمثْلِ ذلك..

واختلفوا في مدةِ هذه الفترة، فعند ابنِ إِسحاق أنها ثلاثُ سنوات.

وقالَ أَبو القاسمِ السُّهَيْلي:

جاءَ في بعضِ الأَحاديثِ المسندةِ أَنَّ مدةَ هذه الفترةِ كانتْ سنتَيْن ونصفاً، وقالَ السيوطي: إِنها كانتْ سنتين ... " (١) .

وعَلَّقَ الفادي المجرمُ على هذا الادِّعاءِ بقوله: " ونحنُ نسأَل: كيفَ

يُحاولُ نبيّ الانتحارَ؟

ويقولُ القرآنُ معاتباً محمداً: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ ... ) : أَيْ: قَاتِلُهَا غمّاً ".

وما نَقَلَه الفادي عن كتب إِسلامية مردودٌ وباطل، ولم يُنقلْ هذا بروايات

صحيحة.

فالرسولُ - صلى الله عليه وسلم - لم يَشرعْ في الانتحار، ولم يُفكرْ في قَتْلِ نفسِه، ولم يكنْ يَتَنقلُ بين رؤوسِ جبالِ مكة، ليتردّى منها، فيلاحقُه جبريلُ ويُناديه، ويُطَمئنُه أَنه رسولُ الله.

لقد كانَ رسولُ الله - عليه السلام - يوقنُ أَنه رسولُ الله، منذُ أَنْ أَنزلَ اللهُ عليه الوحي، وكان على بينةٍ من ربِّه وقد شهدَ اللهُ له بتلك البينة في قوله تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً) .

ومن جهلِ الفادي وغَبائِه أَنه لم يُحسنْ فهمَ آيةٍ من القرآن، فيها تسليةٌ

لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.

وهي قولُ الله - عز وجل - (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (٦) .

لا تتحدَّثُ الآيةُ عن رغبةِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - في الانتحارِ والتخلُّصِ من الحياة، كما ادَّعى الفادي المجرم، وإِنما تشيرُ الآيةُ إِلى اهتمامِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - بقومه، وحرصِه على هدايتهم، وتأَلمِه من تكذيبِهم وكفرِهم، وتَدْعوهُ الآية ُ إِلى


(١) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
٥٢- محاولة النبى محمد صلى الله عليه وسلم الانتحار
الرد على الشبهة:
الحق الذى يجب أن يقال.. أن هذه الرواية التى استندتم إليها - يا خصوم الإسلام - ليست صحيحة رغم ورودها فى صحيح البخارى - رضى الله عنه -؛ لأنه أوردها لا على أنها واقعة صحيحة، ولكن أوردها تحت عنوان " البلاغات " يعنى أنه بلغه هذا الخبر مجرد بلاغ، ومعروف أن البلاغات فى مصطلح علماء الحديث: إنما هى مجرد أخبار وليست أحاديث صحيحة السند أو المتن (١) .
وقد علق الإمام ابن حجر العسقلانى فى فتح البارى (٢) بقوله:
" إن القائل بلغنا كذا هو الزهرى، وعنه حكى البخارى هذا البلاغ، وليس هذا البلاغ موصولاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الكرمانى: وهذا هو الظاهر ".
هذا هو الصواب، وحاش أن يقدم رسول الله - وهو إمام المؤمنين - على الانتحار، أو حتى على مجرد التفكير فيه.
وعلى كلٍ فإن محمداً صلى الله عليه وسلم كان بشراً من البشر ولم يكن ملكاً ولا مدعيًا للألوهية.
والجانب البشرى فيه يعتبر ميزة كان صلى الله عليه وسلم يعتنى بها، وقد قال القرآن الكريم فى ذلك: (قل سبحان ربى هل كنت إلا بشراً رسولاً) (٣) .
ومن ثم فإذا أصابه بعض الحزن أو الإحساس بمشاعر ما نسميه - فى علوم عصرنا - بالإحباط أو الضيق فهذا أمر عادى لا غبار عليه؛ لأنه من أعراض بشريته صلى الله عليه وسلم.
وحين فتر (تأخر) الوحى بعد أن تعلق به الرسول صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى المكان الذى كان ينزل عليه الوحى فيه يستشرف لقاء جبريل، فهو محبّ للمكان الذى جمع بينه وبين حبيبه بشىء من بعض السكن والطمأنينة، فماذا فى ذلك أيها الظالمون دائماً لمحمد صلى الله عليه وسلم فى كل ما يأتى وما يدع؟
وإذا كان أعداء محمد صلى الله عليه وسلم يستندون إلى الآية الكريمة: (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً) (٤) .
فالآية لا تشير أبداً إلى معنى الانتحار، ولكنها تعبير أدبى عن حزن النبى محمد صلى الله عليه وسلم بسبب صدود قومه عن الإسلام، وإعراضهم عن الإيمان بالقرآن العظيم؛ فتصور كيف كان اهتمام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بدعوة الناس إلى الله، وحرصه الشديد على إخراج الكافرين من الظلمات إلى النور.
وهذا خاطر طبيعى للنبى الإنسان البشر الذى يعلن القرآن على لسانه صلى الله عليه وسلم اعترافه واعتزازه بأنه بشر فى قوله - رداً على ما طلبه منه بعض المشركين-: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً * أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أوتأتى بالله والملائكة قبيلاً * أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى فى السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه) . فكان رده: (سبحان ربى) متعجباً مما طلبوه ومؤكداً أنه بشرٌ لا يملك تنفيذ مطلبهم: (هل كنت إلا بشراً رسولاً) (٥) .
أما قولهم على محمد صلى الله عليه وسلم أنه ليست له معجزة فهو قول يعبر عن الجهل والحمق جميعاً.
حيث ثبت فى صحيح الأخبار معجزات حسية تمثل معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما جاءت الرسل بالمعجزات من عند ربها؛ منها نبع الماء من بين أصابعه، ومنها سماع حنين الجذع أمام الناس يوم الجمعة، ومنها تكثير الطعام حتى يكفى الجم الغفير، وله معجزة دائمة هى معجزة الرسالة وهى القرآن الكريم الذى وعد الله بحفظه فَحُفِظَ، ووعد ببيانه؛ لذا يظهر بيانه فى كل جيل بما يكتشفه الإنسان ويعرفه. اهـ (شبهات المشككين) .

<<  <  ج: ص:  >  >>