إِنَّ الآية إِدانةٌ لليهودِ، بأَنهم تَلاعبوا بالتوراةِ وحَرَّفوها، وغَيَّروا
أَحكامَها، ومع ذلك زعموا أَنهم ملتزمونَ بها، فتحدَّتْهم الآيةُ بإِحضارِ التوراةِ
الأصلية، ولن يستطيعوا ذلك، لأَنهم أَضاعوها.
أَخبرَ اللهُ أَنَّ كُلَّ أَنواعِ الطعام كانتْ مباحةً لبني إِسرائيل، وأَنه لم يُحَرِّمْ
عليهم إِلَّا الطعامَ الذي حَرَّمَه أَبوهم إِسرائيل - يعقوب - عليه السلام - على نفسه، وهذا الطعامُ هو لحومُ الإِبل، وهذا كان قبلَ إِنزال التوراة؛ لأَنَّ إِنزال التوراةِ كان على موسى - عليه السلام -، ويعقوبُ عاشَ قبلَ ذلك بمئاتِ السنين: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ) .
فإِذا لم يُسَلِّم اليهودُ في المدينةِ بهذه الحقيقةِ القرآنية، وكَذَّبوا القرآن،
وزَعَموا أَنَّ الذي في التوراةِ خلافَ المذكورِ في القرآن، فعليهم أَنْ يَأتوا
بالتوراة، وأَنْ يَتْلوها، ويَستَخْرِجوا منها الكلامَ المتعارضَ من القرآن، وأَنْ
يُقَدِّموا هذا للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأَصحابِه: (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٩٣) .
وهم لن يستطيعوا ذلك، ولَن يأتوا بالتوراة، لأَنَّ التوراةَ الأَصليةَ
مفقودو، فمِنْ أَيْنَ يأتونَ بها؟!.
وهكذا رأَيْنا الآيةَ تُدينُ اليهودَ ولا تُؤَيِّدُهم، وتُقررُ ضَياعَ التوراةِ، ولا
تَشهدُ لها بأَنها صحيحة وسالمة من التحريف، كما ادعى الفادي!.
وزَعْمُ الفادي شهادةَ القرآنِ بسلامةِ الإِنجيلِ من التحريفِ مردود عليه،
والذي قَرَّرَه القرآنُ هو عكسُ ذلك، فقد قَرَّر تَحريفَ الرهبانِ للإِنجيل،
وتأْليهَهُم لعيسى - عليه السلام -.
قال تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) .
وقال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ) .