فمرض بسببها أيامًا على ما قيل، ثم انتقل إلى رحمة الله وهو قطب الوجود يوم الجمعة سلخ رجب سنة أربع ومائتين، ودفن بالقرافة بعد العصر من يومه، وكانت له كرامات ظاهرة، منها: أنه لما حضره الموت نظر إلى أصحابه: فقال للبويطى: يا أبا يعقوب تموت في قيودك، فكان منه ما سنذكره قريبًا، وقال للمزنى: سيكون لك بعدى شئون، فعظم شأنه بعده عند الملوك فمن دونها، وقال لابن عبد الحكم: تنتقل إلى مذهب أبيك، فانتقل لسبب يأتى ذكره، وقال للربيع: أنت راوية كتبى، فعاش بعده قريبًا من سبعين سنة حتى صارت الرواحل تشد إليه من أقطار الأرض، لسماع كتب الشافعي.
وكان -رحمه الله- أول من تكلم في أصول الفقه، وأول من قرر ناسخ الأحاديث ومنسوخها، وأول من صنف في أبواب كثيرة من الفقه معروفة، ومع ذلك قال: وددت أن لو أخذ عنى هذا العلم من غير أن ينسب إلىّ منه شئ، وقال: ما ناظرت أحدًا إلا وددت أن يظهر الله الحق على يديه، ومعناه كما قال البيهقي: إنه لا يستنكف [عن الأخذ به، بخلاف خصمه، فإنه قد يستنكف](١) فلا يأخذ به، وكان جهورى الصوت جدًا، وفي غاية من الكرم والشجاعة، وجودة الرمى وصحة الفراسة وحسن الأخلاق، وكان قوله حجة في اللغة كقول امرئ القيس ولبيد ونحوهما، نهاية في العلم بأنساب العرب وأيامها وأحوالها ذا، شعر غريب.
طلب -رحمه الله- من محمد بن الحسن صاحب أَبي حنيفة -رضى الله عنهما- إعارة كتب لما قدم بغداد فمنعها، وكان الشافعي يعظمه ويثنى على علمه ثناءً كثيرًا، فبعث إليه رقعة فيها: