هبني صبوت كما ترون بزعمكم ... وحظيت منه بلثم خد أزهر
إني اعتزلت فلا تلوموا أنه ... أضحى يقابلني بوجه أشعرى
فلما مات إمامه خرج إلى المعسكر وحضر مجلس نظام الملك، وكان مجلسه محط رحال العلماء، ومقصد الأئمة [والنصحاء](١)، فوقع للغزالي أمور تقتضي علو شأنه من ملاقاة الأئمة ومجازاة الخصوم اللُد، ومناظرة الفحول، ومناطحة الكبار، فأقبل عليه نظام الملك وحل منه محلًا عظيمًا فعظمت منزلته، وطار اسمه في الآفاق، وندب للتدريس بنظامية بغداد سنة أربع وثمانين فقدمها في تجمل كبير وتلقاه الناس ونفذت كلمته، وعظمت حشمته حتى غلبت على حشمة الأمراء والوزراء، وضربت به الأمثال وشدت إليه الرحال إلى أن شرفت نفسه عن رذائل الدنيا فرفضها وأطرحها، وأقبل على العبادة والسياحة، فخرج إلى الحجاز في سنة ثمان وثمانين فحج ورجع إلى دمشق واستوطنها عشر سنين بمنارة الجامع، وصنف فيها كتبًا يقال: إن "الإحياء" منها، ثم صار إلى القدس والإسكندرية، ثم عاد إلى وطنه بطوس مقبلًا على التصنيف والعبادة، وملازمة التلاوة ونشر العلم، وعدم مخالطة الناس.
ثم إن الوزير فخر الملك بن نظام الملك حضر إليه وخطبه إلى نظامية نيسابور وألح عليه كل الإلحاح فأجاب إلى ذلك، وأقام عليه مدة، ثم تركه وعاد إلى وطنه على ما كان عليه، وابتنى إلى جواره خانكاة للصوفية، ومدرسة للمشتغلين، ولزم الانقطاع ووظف أوقاته على وظائف الخير بحيث لا تمضي لحظة منها إلا في طاعة من التلاوة والتدريس والنظر في الأحاديث، خصوصًا البخاري، وإدامة الصيام والتهجد ومجالسة أهل