أما إن تيقَّن الحَدَث، أي عدم الوضوء، وشك هل توضأ أم لا، لزمه الوضوء، وهو أيضاً رأي جميع المسلمين، وهذا وما قبله يدخل في القاعدة الشرعية المسمَّاة بقاعدة الاستصحاب، وهي أن الحكم باق على أصله الأول لا يزول بالشك. قال الشيخ تقي الدين النبهاني في كتابه في الأُصول (المراد بالاستصحاب استصحابُ الحال، وقد عرَّفه علماء الأصول بأنه عبارة عن الحكم بثبوت أمر في الزمان الثاني بناء على ثبوته في الزمان الأول، أي هو ثبوتُ أمرٍ في الزمن الحاضر بناء على ثبوته فيما مضى، فكل أمر ثبت وجوده ثم طرأ الشك في عدمه فالأصل بقاؤه، والأمر الذي عُلم عدمه ثم طرأ الشك على وجوده فالأصل استمراره في حال العدم) وقال ابن المبارك: إذا شك في الحَدَث فإنه لا يجب عليه الوضوء حتى يستيقن استيقاناً يقدر أن يحلف عليه، أما إذا تيقَّن الحدث وشك في الطهارة فإنه يلزمه الوضوء بإجماع المسلمين. وأنا وإن كنت لا أقول بإجماع المسلمين كدليل، إلا أن ذكر إجماع المسلمين في المسائل يفيدها قوة ويزيدنا اطمئناناً.
المسألة الرابعة
ذهب قطاع واسع من العلماء إلى أن زوال العقل بجنون أو إغماء أو سُكْر أو دواء ينقض الوضوء قياساً على النوم، وقالوا إن الذهول عند هذه الأسباب أبلغ من النوم. وأنا لا أرى هذا الرأي لأن القياس في العبادات لا يجوز إلا إن وجدت علَّة في النص، ولا علَّة في نقض النوم للوضوء فلا قياس. وأما الذين قاسوا فكانوا قد جعلوا نقض النوم للوضوء لعلَّة خروج الريح، فقالوا إن الجنون والإغماء والسُّكْر مظنَّةٌ لخروج الريح تماماً كالنوم وأنا لا أطيل في هذه النقطة، وحسبي أنني لم أجد نصاً ولو ضعيفاً يفيد نقض الإغماء أو زوال العقل للوضوء، وهذه عبادة، والعبادة يقام بها كما وردت، لا نزيد فيها ولا ننقص منها.