يبين هذان الحديثان أن الجهر المشروع هو ما كان متوسطاً بين الشدة في الرفع وبين الضعف في الصوت والخفوت فيه، فلا يوصف بالارتفاع ولا بالانخفاض والخفوت، فقوله في الحديث «يخفض من صوته» و «رافعاً صوته» ثم علاج الأمرين بقوله «ارفع من صوتك شيئاً» وبقوله «اخفض من صوتك شيئاً» واضح الدلالة على مشروعية الاعتدال ورفض الرفع والانخفاض، ويأتي الحديث الأول ليحدِّد قدر الجهر بشكل دقيق، وهو الصوت الذي إذا انبعث من داخل غرفة النوم سمعه من يقف في ساحة الدار. فهذا هو الجهر المشروع في الصلاة.
أما ما رواه أبو داود عن أبي هريرة قال «كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالليل: يرفع طوراً ويخفض طوراً» . وما رواه أحمد عن يحيى بن معمر عن عائشة رضي الله عنها قال «قلت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرفع صوته بالقراءة؟ قالت: ربما رفع وربما خفض» . فيخطئ مَن يستدل بهما على قدر الجهر في الصلاة، ذلك أن هذين الحديثين قد وردا في موضوع جواز الجهر في الصلاة، ولم يردا في موضوع قدر الجهر، فقوله في الحديث الأول «يرفع طوراً ويخفض طوراً» وقوله في الحديث الثاني «ربما رفع وربما خفض» جاء لبيان حكم الجهر في الصلاة، وأنه الجواز، بدلالة فعله عليه الصلاة والسلام في صلاته، إذ كان يجهر مرة ولا يجهر مرة أخرى بل يُسِرُّ، ولو كان الجهر واجباً لما تركه عليه الصلاة والسلام في صلاته الجهرية مراتٍ، وحكم الجهر في الصلاة موضوع مغاير لقدر الجهر في الصلاة.