للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

مِن طريق الاستنباط والاجتهاد وإتعابِ النفس وإعمالِ الفكر؛ ليتبيَّن المُجِدُّ مِن المقصِّر، والمجتهدُ مِن المفرِّط، فيكون ثوابهم على قَدْر (١) اجتهادهم، ولتكون مراتبُهم على قَدْر علومهم، ولولا ذلك لاستوت الأقدامُ، ولم يتميَّز الخاصُّ مِن العامِّ، ولبطلت المحنةُ، وذهب التفاوتُ بين الناس، ولا يزال الناسُ بخيرٍ ما تفاوتوا، فإن (٢) استَوَوا هلَكوا، وقال تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: ١٦٥] وقال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: ٢١].

وقيل: الحكمة فيه: أنَّ اللَّهَ تعالى كلَّف عبادَه ضروبًا مِن العبادات؛ وجعل بعضَها باللسان، وبعضَها باليد، وبعضَها بالرِّجْل، وبعضَها بالسمع، وبعضَها بالبصر، وبعضَها على كلِّ البَدَن كالصلاة ونحوها، وبعضَها على القلب؛ فجعل بعضَها مُحكَمًا وبعضَها متشابهًا؛ ليتعبَ القلب بالتفكُّر في المتشابه منها؛ ليخرجه على موافَقة المحكم منه (٣)، فتكون ذلك عبادةً منه كعبادات سائر الأعضاء.

وقيل: إنَّ القرآنَ نزل بلغة العرب، وعلى موافَقة عادتهم في المخاطبات، ومعلومٌ أنَّهم يتكلَّمون بأنواعٍ مِن الكلام؛ منها الواضحُ البيِّن، ومنها الغامضُ الذي يَحتاج في استخراجه إلى التفكُّر، ومَن نَظَرَ في خُطَبهم وأشعارهم ومخاطباتِ الفصحاء منهم ومكاتباتهم إلى يومنا هذا، عَرف حقيقةَ ما قلنا، فخوطبوا على ما تَعارفوه مِن ذلك فيما بينهم.


(١) في (أ) و (ف): "ثوابهم بقدر".
(٢) في (أ) و (ف): "فإذا".
(٣) "منه": من (أ) و (ف).