للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وقال الإمام القشيري رحمه اللَّه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} تشريفٌ، و {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} تكليفٌ، ولمَّا علِمَ أنَّ في التَّكليفِ مشقَّةً، قدَّمَ التَّشريفَ بالثناء على التَّكليف بالأداء، فقال: يا مَن فتحتُ بصائرَهم بشهودِ حقِّي، لا تكونوا كمَن أعرضتُ عنهم مِن خلقي.

والعقدُ: ما ألزمَكَ بسابقِ إيجابِه، ثمَّ وفَّقك بعد ما أظهركَ عند خطابه لجوابِه، فانبرمَ العقدُ بحصولِ الخطاب، والقَبول بالجواب، ويَدخلُ في ذلك ما عَقَدَ القلبُ معه سرًّا بسِرٍّ؛ من خلوصٍ له أضمرَه، ومعنًى كوشِفَ به وطولِبَ به فاستشعرَه (١).

ثمَّ مِن هذه العقود ما ذكرَهُ مِن بعدُ، وهو قولُه تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} فمِن الوفاءِ بالعهدِ تحريمُ ما حرَّمَهُ، وإحلالُ ما أحلَّه، والبهيمةُ هي التي لا تَعقلُ؛ من قولهم: استبهمَ الأمرُ عليَّ؛ أي: أشكل، والأنعام هي: الإبلُ والبقرُ والغنم، واحدُها: نَعَم، قال تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} [النحل: ٥]، وقال: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} الآيات [الأنعام: ١٤٢]، وقد يُطلَق على الإبلِ خاصَّةً.

والبهيمة أضيفت إلى الأنعام، وله وجهان:

أحدهما: أنَّ معناه: البهيمة من الأنعام.

والثاني: أنَّهما واحدٌ، والجمعُ بينهما تأكيدٌ، كما يقال: علمُ اليقين، وحقُّ اليقين، وهو إضافةُ الشَّيء إلى نفسِه، ويدلُّ عليه قوله تعالى في سورة الحج: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [الحج: ٣٠]، كما جَمع بينهما هاهنا، والبهيمةُ على هذا واحدٌ أريد به الجمع، كما في قوله: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر: ٦٧].


(١) انظر: "لطائف الإشارات" للقشيري (١/ ٣٩٦ - ٣٩٧).