للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

والحامِلُ على الإتيان من أقاصي البُلدان شيئانِ اثنان؛ أمنُ المقصِدِ، وأمنُ الطَّريق إليه، واللَّهُ تعالى أثبتَهما جميعًا في القديم، فقال: {حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (١) [العنكبوت: ٦٧]، وقال: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: ٩٧]، وأثبتَ أمنَ الطَّريق (٢) بتحريمِ الأشهر الحرم الأربعة، وهي: ذو القَعدة لإتيانِهم، وذو الحِجَّة لإقامَتِهم بمكَّة، والمحرَّمُ لرجوعهم، ورجبٌ للسَّفر في غير أيَّام الحجِّ، فكانوا (٣) إذا خرجوا إليها لا يتعرض لهم في هذه الأشهرِ الحُرُمِ بتحريمِ اللَّه تعالى ذلك، فكانوا يأمنون على أنفسِهم وأموالِهم بذلك، ولمَّا كان قد يَبعُدُ الطَّريق، فلا يكفي للإتيان والرُّجوع هذه الأشهر، شرعَ اللَّهُ تعالى الهديَ والقلائدَ، فكانوا إذا ساقوا ذلك مع أنفسِهم، وقد خرجوا في غيرِ هذه الأشهر، لا يُتعرَّض لهم أيضًا بنهبٍ أو قتلٍ أو إيذاء، فيأمنون بذلك، وكانت الحكمةُ في ذلك كلِّه إقامةَ مصالحِ أهلِ مكَّة وقوام عيشِهم بحملِ النَّاسِ إليهم كلَّ شيءٍ يَحتاجون إليه، قال اللَّه تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ} [المائدة: ٩٧].

وكان هذا أمرًا قديمًا، ومعنى تجديدِ الخطاب بذلك ما رُويَ في شأن نزولِ هذه الآية عن ابن عباسٍ رضي اللَّه عنهما أنَّه قال: نزلت في الحُطم، واسمه: شريحُ بنُ ضُبيعَة بن شرحبيل البكري، وذلك أنَّه أتى المدينةَ، ودخلَ على النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: إلامَ تدعو النَّاس؟ فقال: "إلى شهادة أنْ لا إله إلا اللَّه، وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاة"، فقال: حسنٌ، ألا إنَّ لي أصحابًا لا أقطعُ أمري دونَهم، ثمَّ خرجَ فقال النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لقد دخلَ بوجه كافرٍ، وخرج بعَقِبَي غادر، وما الرَّجلُ بمسلمٍ"، فمرَّ بسَرْحِ المدينة فاستاقَها، وهو يرتجز:


(١) بعدها في (أ): "أفبالباطل يؤمنون وبنعمة اللَّه يكفرون".
(٢) بعدها في (ر): "إليه".
(٣) في (أ): "كانوا".