للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وكما أنَّ في السَّماء شمسًا وقمرًا، والشَّمسُ أبدًا بضيائها، والقمرُ في الزِّيادة والنُّقصان أبدًا، وكما استترَ بمحاقِهِ، بدا بعد ذلك حتَّى يكمل بدرًا بإشراقه، ثمَّ يأخذُ في النَّقص إلى أن لا يبقى منه شيء لتمام انمحاقه، ثمَّ يعودُ جديدًا، وكلُّ ليلةٍ تجدُ مزيدًا، فإذا صار بدرًا تمامًا، لم يجد أكثرَ مِن ليلةٍ لكمالِه مقامًا، ثم يأخذ في النُّقصان إلى أن يخفى شخصُه ويتمَّ نقصُه = كذلك مِن النَّاس مَن هو مردودٌ بينَ قبضِه وبسطِه، وصحوِه ومحوِه، وذهابِه وإيابِه، لا فناءَ فيستريح، ولا بقاءَ له دوامٌ صحيحٌ.

قال الشَّاعر:

كلَّما قلْتُ قَدْ دَنَا حَلُّ قَيْدِي... قدَّموني فأوثَقُوا المِسْمارَا (١)

وقوله تعالى: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} قيل: أي: وقدَّر القمرَ منازلَ، فعل يتعدَّى إلى مفعولَيْن، وهو كقولِه: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: ٣٩]، يجري في كلِّها كلَّ شهرٍ مرَّة.

وإنَّما خصَّ القمرَ به لأنَّه هو الذي يعرِّفُ الشُّهور، وباجتماعِها تكون السِّنون.

وقيل: معناه: وقدَّرَهما منازلَ؛ أي: الشَّمس والقمر، وإنَّما وحَّد (٢) اكتفاءً، كما في قولِه عزَّ وجلَّ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: ٦٢]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: ٣٤]، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا} [النساء: ١١٢]، وقوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: ١١]، وهذا لأنَّه يُعرَف بالشَّمس ابتداءُ النَّهار وانتهاؤه، وباجتماع الأيَّام واللَّيالي تُعرَف الشُّهور.


= طلعت شمسُ مَنْ أُحِبُّ بِليلٍ... فَاسْتَنارَتْ فَمَا تَلَاهَا غُرُوبُ
(١) انظر: "لطائف الإشارات" للقشيري (٢/ ٨٠). والبيت للشبلي. انظر: "محاضرات الأدباء" (٢/ ٨١٨)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (٦٦/ ٧٦).
(٢) في (أ): "وإنما ذكر واحدًا".