للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

صاحب الزَّرع الذي يُنْفِقُ عليه لِمَا يأمُلُ مِن المنافع، ثمَّ يكون ما ذكر، ولو علم ذلك في الابتداء ما فعل، فكذلك صاحبُ الدُّنيا فيما فعل (١).

وقال الإمام القشيريُّ رحمه اللَّه: شبَّه الحياةَ الدُّنيا بالماء الذي ينزل من السَّماء، ينبُتُ به النَّبات، وتخضرُّ به الأرض، وتظهر الثمار، ويوطِّن أربابُها عليها أنفسَهم، فتصيبهم جائحة سماويَّةٌ بغتةً، وتصيرُ كأنْ لم تكنْ، كذلك الإنسانُ بعد كمالِ سِنِّه، وتمام قوَّتِه، واستجماع الخصال المحمودة فيه تخترمُه المنيَّة، وكذلك أمورُه المنتظِمةُ تبطل وتختلُّ بوفاته، كما قيل:

فقدناه لَمَّا تمَّ واعتمَّ بالعُلا... كذاك كسوفُ البدرِ عندَ تمامِهِ (٢)

ومِن وجوهِ تشبيهِ الأموالِ الدُّنيويَّة بالماء المنزَل مِن السَّماء: أنَّ المطرَ لا يُستنزَل بالحيلة، كذلك الدُّنيا لا تساعد إلَّا بالقسمة (٣)، ثمَّ إنَّ المطرَ وإنْ كان لا يجيء إلَّا بالتَّقدير فقد يُستسقَى، كذلك الرِّزق وإن كان بالقسمة فقد يُلتَمَس مِن اللَّه تعالى ويُستعطَى.

ومنها: أنَّ الماءَ في موضعِه سببُ حياةِ النَّاس، وفي غير موضعِه سببُ خرابِ


(١) في (أ): "يفعل". وانظر: "تأويلات أهل السنة" للماتريدي (٦/ ٢٩)، وفيه: (. . . ولو علم في الابتداء أن أمر زرعه يؤول ويصير إلى ما صار لكان لا ينفق؛ فعلى ذلك صاحب الحياة الدنيا لو علم أن عاقبة أمر نفقته تصير حسرة عليه وندامة ما أنفق، كما أن صاحب الزرع الذي ذكر وبلغ المبلغ الذي ذكر لو علم أن عاقبته كما كان ما أنفق عليه، أو لو علم أنه لا ينتفع به ما أنفق تلك النفقة؛ أي: لو علم أن سروره وابتهاجه به لا يبقى ولا يدوم إلى آخره ما تكلف ذلك، أو لو علم أنها تزول عنه وتنقطع عن تلك السرعة ما أنفق ذلك وما تكلف الذي تكلف).
(٢) البيت لأبي الفتح البستي في الصاحب. انظر: "التمثيل والمحاضرة" للثعالبي (ص: ٢٣٢)، و"زهر الآداب" للقيرواني (٢/ ٤٥١).
(٣) في (أ): "لا يساعد إلا بالسمة"، وفي "لطائف الإشارات": "لا تساعدها إلا القسمة".