للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وأكثر المفسرين على أن إيمان قوم يونس لم يكن حين عاينوا هذا العذاب، لكنَّ يونسَ صلوات اللَّه عليه أخبرَهم بدنوِّ نزول العذاب بهم، وفارقَهم، وتلك حالةٌ لم يَزُلِ التَّكليفُ فيها عنهم، فراجعوا عقولَهم، فأبصروا رشدهم، فآمنوا، فانصرفَ العذابُ الَّذي كان أشرفَ عليهم عنهم.

وكان ذلك مخالفًا لحالةِ فرعونَ حين أدركَه الغرقُ؛ لأنَّه آمنَ في حالِ معاينةِ العذابِ، وهي حالةُ زوالِ التَكليف عنه، فلم ينفَعْهُ الإيمانُ، كقوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: ٨٥].

وقوله تعالى: {كَشَفْنَا عَنْهُمْ} لا يدلُّ على حصولهم في العذاب، بل يقع ذلك على إشراف العذاب عليهم، كما قال تعالى: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: ١٠٣] كان الإنقاذُ منها حالةَ الإشراف عليها، لا الحصولِ فيها.

وقال قتادة: ذُكِرَ لنا أنَّ قومَ يونسَ عليه السَّلام كانوا بنِيْنَوى مِن أرضِ الموصِل، فلمَّا فقدوا نبيَّهم قذفَ اللَّهُ في قلوبِهم التَّوبة، فلبسوا المسوحَ، وخرجوا فنزلوا على تلٍّ، وفرَّقوا بينَ كلِّ بهيمةٍ وولدِها، وعجُّوا أربعين ليلةً، فلمَّا علمَ اللَّهُ تعالى الصِّدق مِن قلوبِهم، كشفَ عنهم العذابَ، وتابَ عليهم، ومتَّعهم إلى حين الموت (١).

وقال وهبٌ: قال يونسُ لقومِه: إنَّ أجلَكُم أربعون يومًا وليلة، فإنْ لم تستجيبوا له عذَّبكم عذابًا يفنيكُم ويستأصلُكم. قالوا: فإنَّ آيةَ ما بينَنا وبينك الأجل، فإنْ رأيْنا أسبابَ العذابِ صدَّقْناك، فدخلوا مدينتهم يأتمرون وينتظرون في أمره، فلمَّا مضى مِن الأجل خمسة وثلاثون يومًا غامَتْ عليهم السَّماء غيمًا أسودَ هائلًا، يدخِّنُ دخانًا شديدًا، ثمَّ يهبط حتَّى يغشى مدينتهم، حتَّى اسودَّتْ سطوحُهم منه، فلمَّا رأَوا ذلك


(١) رواه الطبري في "تفسيره" (١٢/ ٢٩٣)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (٦/ ١٩٨٨).