في غَدْرَتكَ إلا بالأمس (١)؟! فكلَّمه رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بنحو ما كلَّمَ به أصحابَه، وأخبرَه أنه لم يأتِ يُريدُ حَرْبًا.
فقام مِن عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد رأى ما يصنَعُ أصحابُه، لا يتوضَّأُ إلا ابتدَروا وَضوءَه، ولا يبصُقُ بُصاقًا إلا ابتدَروه ودلَكوا به وجوهَهم، ولا سقَطَ مِن شَعْره شيءٌ إلا أخذوه، فرجع إلى قريش، فقال: يا مَعْشَرَ قريشٍ، إني قد جئتُ كسرى في مُلْكه، والنَّجاشيَّ في مُلْكه، وقَيْصَرَ في مُلْكه، وإني واللَّهِ ما رأيتُ مَلِكًا في قوم قطُّ مِثْلَ محمد في أصحابه، ولقد رأيتُ قومًا لا يُسْلِمونه لشيءٍ أبدًا، وقد عرَضَ عليكم خُطَّةَ رُشْدٍ فاقبلوها منه.
وكانت قريشٌ بعثوا أربعين رجلًا أو خمسين، وأمَرُوهم أنْ يُطِيفوا بعسكر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعلَّهم يُصيبون مِن أصحابه أحدًا، فأُخِذوا وأُتِيَ بهم رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فعفى عنهم، وخلَّى سبيلَهم، وقد كانوا رَمَوا في عسكر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالحجارة والنَّبْل.
ثم دعا عمرَ بن الخطاب رضي اللَّه عنه لِيَبْعثَه إلى مكة، فيُبَلِّغَ عنه أشرافَ قريشٍ ما جاء له، فقال: يا رسولَ اللَّه، إني أخافُ قريشًا على نفْسي، وليس بمكَّةَ أحدٌ مِن بني عَدِيِّ بن كعب يمنعُني منهم، وقد عرَفَتْ قريشٌ عَداوتي لهم وغِلْظَتي عليهم، ولكنْ أدلُّكَ على رجل هو أَعَزُّ بها مني، عثمانَ بن عفان، فدعا رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عثمانَ، فبعثَه إلى أبي سفيانَ وأشرافِ قريشٍ يُخبِرُهم أنه لم يأتِ لحربٍ، وإنما جاء زائرًا لهذا البيت، فخرَجَ عثمان رضي اللَّه عنه إلى مكة، فلَقِيَه أَبانُ بنُ سعيدِ بن
(١) وذلك أن المغيرة بن شعبة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلًا من بني مالك من ثقيف، فتهايج الحيان من ثقيف، فودى عروة المقتولين ثلاث عشرة دية، وأصلح ذلك الأمر. انظر: "سيرة ابن هشام" (٢/ ٣١٠).