للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النَّظر، وإنَّما هو عمل يقومٌ على كثيرٍ من التدبُّرِ والتعقُّل، إذ ليس حملُ المجمَلِ على المبيَّن، أو المطلَقِ على المقيَّد، أو العامِّ على الخاصِّ، أو إحدى القراءتينِ على الأخرى، بالأمرِ الهيِّن الذى يَدخلُ تحت مقدورِ كلِّ إنسان، وإنما هو أمر يَعرفه أهلُ العلم والنظرِ خاصةً (١).

ولقد عُني العلماءُ بتفسيرِ القرآنِ بالقرآن عنايةً كبيرةً، حتى عَدُّوه أصحَّ طرقِ التفسير، كما قال بعضهم: إن أصحَّ الطرقِ في التفسيرِ أنْ يفسَّر القرآنُ بالقرآن، فما أُجْمِلَ في مكانٍ فإنه قد فُسِّرَ في موضعٍ آخر، وما اخْتُصِر من مكانٍ فقد بُسِطَ في موضعٍ آخر.

لكن ينبغي التنبيهُ هنا على أنَّ تفسير القرآنِ بالقرآن -فيما عدا ما فسَّره النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- من ذلك- هو نوعٌ من أنواع التفسير بالرأي، فإنَّ عمليةَ التفسيرِ المعتمِدةَ على الفهمِ والاجتهاد بين الآيتين، والحكمَ بأنَّ إحداهما مبيِّنةٌ للأخرى، أو مفصِّلةٌ لمجمَلها، أو مطلِقةٌ لمقيَّدها، أو ناسخةٌ لحكمِها، إنما هو من قَبيلِ التفسيرِ بالرأي.

وثمةَ أمرٌ آخرُ لا بد من التنبيه عليه أيضًا: أن كونَ تفسيرَ القرآنِ بالقرآن عن طريقِ الاجتهادِ فقد يدخلُه الاختلاف؛ لِمَا جُبِل عليه البشرُ من اختلافِ العقول، فالآيةُ التي يجتهدُ عالمٌ في تفسيرها بآيةٍ أخرى قد يجتهدُ غيرُه فيفسِّرها بغيرها.

وملاحظةٌ أخيرة: وهي أنه ليس كلُّ مَن حمَل آيةً على أخرى يُقبل قوله بحجةِ أنه من تفسيرِ القرآن بالقرآن، فإنَّ هذا الأسلوب قد يستعملُه أحيانًا أهلُ البِدَعِ لتقريرِ بِدْعتِهم، كما فسَّر بعضُ المعتزلةِ قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: ٢٢ - ٢٣] بأنها تنتظِر ثوابَ ربها، وينفُون رؤيةَ الباري، ويستشهدون لذلك


(١) انظر: "التفسير والمفسرون" (١/ ٣٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>