فإن قيل: ومن أين أنّه أمرهم بالسجود على جهة التقديم والتعظيم؟
قلنا: لا يخلو تعبّدهم بالسجود له من أن يكون على سبيل القبلة والجهة من غير أن يقترن به تعظيم وتقديم، أو يكون على ما ذكرناه.
فإن كان الأوّل لم يجز أنفة إبليس من السجود وتكبّره عنه؛ وقوله: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ، [الإسراء: ٦٢]. وقوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ؛ [ص: ٧٦].
والقرآن كله ناطق بأن امتناع إبليس من السجود إنما هو لاعتقاده التفضيل به والتكرمة، فلو لم يكن الأمر على هذا لوجب أن يردّه الله تعالى عنه، ويعلمه أنّه ما أمره بالسجود على وجه تعظيمه له ولا تفضيله؛ بل على الوجه الآخر الّذي لا حظّ للتفضيل فيه؛ وما جاز إغفال ذلك، وهو سبب معصية إبليس وضلالته؛ فلما لم يقع ذلك دلّ على أن الأمر بالسجود لم يكن إلا على جهة التفضيل والتعظيم. وكيف يقع شكّ فى أنّ الأمر على ما ذكرناه؛ وكلّ نبىّ أراد تعظيم آدم عليه السلام، ووصفه بما اقتضى الفخر والشرف ونعته بإسجاد الملائكة له؛ وجعل ذلك من أعظم فضائله؛ وهذا مما لا شبهة فيه.
فأمّا اعتماد بعض أصحابنا فى تفضيل الأنبياء على الملائكة على أن المشقة فى طاعة الأنبياء عليهم السلام أكثر وأوفر من حيث كانت لهم شهوات فى القبائح، ونفار عن الواجبات فليس بمعتمد؛ لأنّا نقطع على أنّ مشاق الأنبياء أعظم من مشاقّ الملائكة فى التكليف؛ والشكّ فى مثل ذلك واجب، وليس كلّ شيء لم يظهر لنا ثبوته وجب القطع على انتفائه. ونحن نعلم على الجملة أن الملائكة إذا كانوا مكلّفين فلا بدّ من أن تكون عليهم مشاقّ فى تكليفهم، ولولا ذلك ما استحقوا ثوابا على طاعاتهم. والتكليف إنما يحسن فى كلّ مكلّف تعريضا للثواب؛ ولا يكون التكليف شاقّا عليهم إلا وتكون لهم شهوات فيما حظر عليهم، ونفار عما أوجب.
وإذا كان الأمر على هذا فمن أين يعلم أن مشاقّ الأنبياء عليهم السلام أكثر من