اعلم أن المعوّل فيما يعتقد على ما تدلّ الأدلة عليه من نفى وإثبات؛ فإذا دلت الأدلّة على أمر من الأمور وجب أن نبنى كلّ وارد من الأخبار إذا كان ظاهره بخلافه عليه؛ ونسوقه إليه، ونطابق بينه وبينه، ونجلّى ظاهرا إن كان له، ونشرط إن كان مطلقا، ونخصّه إن كان عاما، ونفصّله إن كان مجملا؛ ونوفّق بينه وبين الأدلة من كل طريق اقتضى الموافقة وآل إلى المطابقة؛ وإذا كنا نفعل ذلك ولا نحتشمه فى ظواهر القرآن المقطوع على صحته، المعلوم وروده؛ فكيف نتوقّف عن ذلك فى أخبار آحاد لا توجب علما؛ ولا تثمر يقينا! فمتى وردت عليك أخبار فاعرضها على هذه الجملة وابنها عليها؛ وافعل فيها ما حكمت به الأدلة، وأوجبته الحجج العقلية؛ وإن تعذّر فيها بناء وتأويل وتخريج وتنزيل؛ فليس غير الاطراح لها، وترك التعريج عليها؛ ولو اقتصرنا على هذه الجملة لاكتفينا فيمن يتدبّر ويتفكر.
وقد يجوز أن يكون المراد بذمّ هذه الأجناس من الطير أنها ناطقة بضدّ الثناء على الله وبذم أوليائه، ونقص أصفيائه معناه ذمّ متخذيها ومرتبطيها، وأنّ هؤلاء المغرين بمحبّة هذه الأجناس واتخاذها هم الذين ينطقون بضدّ الثناء على الله تعالى، ويذمّون أولياءه وأحبّاءه؛ فأضاف النطق إلى هذه الأجناس، وهو لمتخذيها أو مرتبطيها؛ للتجاوز والتقارب، وعلى سبيل التجوز والاستعارة؛ كما أضاف الله فى القرآن السؤال إلى القرية؛ وإنما هو لأهل القرية، وكما قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً. فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً؛ [الطلاق: ٨، ٩]؛ وفى هذا كلّه حذوف. وقد أضيف فى الظاهر الفعل إلى من هو فى الحقيقة متعلّق بغيره؛ والقول فى مدح أجناس من الطير، والوصف لها بأنها تنطق بالثناء على الله تعالى والمدح لأوليائه يجرى على هذا المنهاج الّذي نهجناه.
فإن قيل: كيف يستحق مرتبط هذه الأجناس مدحا بارتباطها، ومرتبط بعض آخر ذمّا بارتباطه؛ حتى علّقتم المدح والذم بذلك؟