للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

على هذا المعنى؛ وأشعرت باقى النمل؛ وخوّفتهم من الضرر بالمقام، وأنّ النجاة فى الهرب إلى مساكنها؛ فتكون إضافة القول إليها مجازا واستعارة؛ كما قال الشاعر:

* وشكا إلى بعبرة وتحمحم (١) *

وكما قال الآخر:

* وقالت له العينان سمعا وطاعة*

ويجوز أيضا أن يكون وقع من النملة كلام ذو حروف منظومة- كما يتكلّم أحدنا- يتضمن المعانى المذكورة، ويكون ذلك معجزة لسليمان عليه السلام؛ لأنّ الله تعالى سخّر له الطّير، وأفهمه معانى أصواتها على سبيل المعجزة له. وليس هذا بمنكر؛ فإنّ النطق بمثل هذا الكلام المسموع منّا لا يمتنع وقوعه ممن ليس بمكلّف ولا كامل العقل؛ ألا ترى أنّ المجنون ومن لم يبلغ الكمال من الصبيان قد يتكلّمون بالكلام المتضمّن للأغراض؛ وإن كان التكليف والكمال عنهم زائلين.

والقول فيما حكى عن الهدهد يجرى على الوجهين اللذين ذكرناهما فى النملة؛ فلا حاجة بنا إلى إعادتهما. وأما حكايته أنه قال: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ؛ [النمل: ٢١]، وكيف يجوز أن يكون ذلك فى

الهدهد وهو غير مكلّف ولا يستحق مثله العذاب.

فالجواب أن العذاب اسم للضّرر الواقع، وإن لم يكن مستحقا؛ وليس يجرى مجرى العقاب الّذي لا يكون إلّا جزاء على أمر تقدم. وليس بممتنع أن يكون معنى لَأُعَذِّبَنَّهُ أى لأولمنّه، ويكون الله تعالى قد أباحه الإيلام له؛ كما أباحه الذبح لضرب من المصلحة، كما سخّر له الطير يصرّفها فى منافعه وأغراضه؛ وكلّ هذا لا ينكر فى نبىّ مرسل تخرق له العادات؛ وتظهر على يده المعجزات؛ وإنما يشتبه على قوم يظنون أنّ هذه الحكايات تقتضى كون النملة والهدهد مكلّفين؛ وقد بيّنا أنّ الأمر بخلاف ذلك.


(١) لعنترة العبسى، من المعلقة ص ٢٠٤ - بشرح التبريزى:
* فازورّ من وقع القنا بلبانه*
والتحمحم: صوت مقطع ليس بالصهيل.