للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولعل أبا عليّ وغيره إنما عدل فى الشرط الثالث عن ذكر الأحوال لمّا ظن أنّه لا يمكن فيه ما أمكن فى الأول والثانى. ونحن نبين أن الأمر بخلاف ما ظنه؛ وهو أنه لا يمتنع أن يحمل الشرط الأول على الماضى من الزمان، والثانى على الحال، والثالث على المنتظر والمستقبل.

وليس لأحد أن يقول: لا واسطة عند المتكلّمين بين الماضى والمستقبل؛ لأنّ الفعل إما أن يكون معدوما فيكون مستقبلا، أو موجودا فيكون ماضيا؛ وإنما يجعل الأحوال ثلاثة النحويون، ولا يرتضى ذلك المتكلمون.

والجواب عن هذا أنّ الصحيح أنه لا واسطة بين العدم والوجود على ما ذكر، غير أن الموجود فى أقرب الزمان لا يمتنع أن نسميه حالا، وبينه وبين الماضى الغابر السالف فرق؛ كما كان كذلك بينه وبين المنتظر.

وأما بيان اختلاف المأمور؛ فأن يحمل الاتقاء الأوّل على اتقاء المعاصى العقلية التى تختصّ المكلّف ولا تتعداه، والإيمان الأول الإيمان بالله تعالى وبما أوجب الإيمان به، والإيمان الثانى الإيمان بقبح هذه المعاصى ووجوب تجنبها، والاتقاء الثالث الاتقاء لما يتعدّى من المعاصى من الظلم والإساءة.

وليس ينبغى أن يفزع فى أن الاتقاء الثالث يختص بمظالم العباد إلى ما اعتمده أبو عليّ من قوله تعالى: وَأَحْسَنُوا

من حيث كان الإحسان إذا كان متعديا فكذلك ما عطف عليه؛ لأن ذلك من ضعيف الاستدلال، لأن قول الله تعالى: وَأَحْسَنُوا ليس بصريح فى أن المراد به الإحسان المتعدّى؛ لأنه غير ممتنع أن يريد به فعل الحسن والمبالغة فيه، وإن اختص الفاعل ولم يتعدّه؛ ألا ترى أنهم يقولون لمن بالغ فى فعل الحسن وتناهى فيه وإن اختصه: أحسنت وأجملت! ثم إن سلّم أن المراد به الإحسان المتعدّى لم يمتنع أن يعطفه وهو متعدّ على فعل لا يتعدى؛ ألا ترى أنه لو صرّح بذلك فقال: اتقوا المعاصى كلّها والقبائح، وأحسنوا إلى غيركم لكان حسنا غير قبيح! وإنما ينبغى أن يفزع فى التخصيص إلى الفرار من التكرار، وحمله على ما يفيد، وذلك يغنى عما تكلّفه أبو عليّ.