وأما بيان الوجه الثانى فهو أنا نعدل عن ظاهر الشرط فيما ولى الاتقاء؛ من ذكر الإيمان وعمل الصالحات، ونجعله ليس بشرط وإن كان معطوفا على شرط، لأن العدول عن الظاهر بالأدلّة القاهرة واجب لازم مستعمل فى أكثر القرآن؛ فكأنه تعالى لما أراد أن يبيّن وجوب الإيمان وعمل الصالحات وتأكّد لزومه، عطفه على ما هو واجب لازم من اتقاء المحارم لاشتراكهما فى الوجوب؛ وإن لم يشتركا فى كونهما شرطا فى نفى الجناح فيما يطعم؛ وهذا تفسّح وتوسّع فى البلاغة يحار فيها العقل استحسانا واستغرابا؛ وتعويل على أن المخاطب بذلك على إرساله والعدول عن تفصيله يضع كلّ شيء منه فى موضعه؛ وكم فى القرآن من هذه الغرائب فى الفصاحة والعجائب والحذوف والاختصارات التى لا يتجاسر بليغ ولا فصيح على الإقدام عليها، والمرور بشعبها خوفا من الزلل والخلل!
وأما الجواب عن مشكل التكرار فالوجه فيه على الجملة أن نجعل الأحوال التى يقع فيها الاتقاء والإيمان وعمل الصالحات مختلفة بمضىّ واستقبال، فيزول التكرار، أو نجعل المأمور به من الاتقاء والإيمان وعمل الصالحات مشروطا مخصوصا، يتناول الأوّل غير متناول الثانى، والثانى غير متناول الأول؛ فيزول أيضا بذلك التكرار.
وقد أوّل المفسرون على اختلافهم بكثير من الجملة التى أشرنا هاهنا إليها، وذكروا أن الشرط الأول يتعلّق بالزمان الماضى، والشرط الثانى متعلّق (١) بالدوام على ذلك والاستمرار على فعله، والثالث مختص باتقاء ظلم العباد.
وذكر أبو عليّ الجبائىّ هذا بعينه، واستدلّ على أنّ الاتقاء الثالث يختصّ بظلم العباد بقوله تعالى: وَأَحْسَنُوا، وأن الإحسان إذا كان متعديا وجب أن يكون ما أمروا باتقائه من المعاصى أيضا متعديا؛ وهذا ممن اعتمده من المفسرين مزج؛ لاختلاف الأحوال باختلاف المأمور به؛ وما ينبغى أن يكون كذلك، بل الواجب أن نبطل التكرار. إما من جهة اختلاف الأحوال من غير أن نمزجها باختلاف غيرها؛ أو نعدل عن اختلاف الأحوال فنبطل التكرار من حيث اختلاف المأمور به فى عموم وخصوص.