للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قتيبة، وإن تعسّف فى الطعن عليه. والّذي استبعده غير بعيد؛ لأنّ «كاد» قد تضمر فى مواضع يقتضيها بعض الكلام وإن لم تكن فى صريحه؛ ألا ترى أنهم يقولون: أوردت على فلان من العتاب والتوبيخ والتقريع ما مات عنده، وخرجت نفسه، ولما رأى فلان فلانا لم يبق فيه روح، وما أشبه ذلك. ومعنى جميع ما ذكرناه المقاربة، ولا بد من إضمار «كاد» فيه، وقال جرير:

إنّ العيون التى فى طرفها مرض ... قتلنا ثمّ لم يحيين قتلانا (١)

وإنما المعنى أنهن كدن يقتلننا؛ وهذا أكثر فى الشعر والكلام من أن نذكره.

فأما قوله: «يحيين قتلانا» فالأظهر فى معناه أنهن لم يزلن ما قاربنا عنده الموت والقتل من الصدود والهجر وما أشبه ذلك، وسمّى هذه الأمور حياة كما سمى أضدادها قتلا، وقد قيل إن معنى «يحيين قتلانا» أنهن لم يدين قتلانا، من الدّية، لأنّ دية القتيل عند العرب كالحياة له، وقد روى: «ثم لم يجنن قتلانا»، وهذه رواية شاذة لم تسمع من عالم ولا محصّل ومعناها ركيك ضعيف؛ وإذا كان الأمر على ما ذكرناه لم يمتنع أن يقال: قام فلان بمعنى كاد يقوم، إذا دلّت الحال على ذلك؛ كما يقال: مات بمعنى كاد يموت.

فأما قوله: «فيكون تأويل قوله: قام عبد الله، لم يقم عبد الله» فخطأ؛ لأنه ليس معنى كاد يقوم إنه لم يقم/ كما ظنّ بل معنا. أنه قارب القيام ودنا منه، فمن قال: قام عبد الله وأراد كاد يقوم؛ فقد أفاد ما لا يفيده لم يقم.


(١) ديوانه: ٥٩٥؛ وفى حواشى الأصل، ت، ف: «روى أنه وقع الخلاف بين هارون الرشيد وزبيدة فى هذا البيت؛ فكان هارون يقول: «يحيين»، وزبيدة تقول: هو: «يجنن»، بالجيم والنون؛ فتخاطرا على ذلك بألفى دينار، ودعوا مسرورا الخادم، وأعطياه على أن يخرج فيسأل أفضل من ببغداد من أهل العلم؛ فإن صوب قول هارون أعطاه ألفا، وإن صوب قول زبيدة فألفها، فخرج مسرور بالشموع يطلب من يفتيه فى ذلك؛ فدل على الكسائى؛ وكان قريب عهد القدوم من الكوفة إلى بغداد؛ وكان يأوى إلى مسجد؛ فدخل مسرور عليه بخيله وحشمه؛ فتحفز له الكسائى؛ فقال: لا بأس؛ إنه بيت قد أشكل علينا، واستفتاه فى الكلمتين فصوبهما جميعا؛ فأعطاه الألفين؛ فأصبح وقد استفاد بكلمة أوضحها ما أغناه؛
وهذا دليل على حسن تأتيه ولطافة أدبه».