بغداد، وجعلتنى كافرا، وجعلت حسنى قبيحا؛ وما أشبه ذلك؛ فهى هاهنا تتعدى إلى مفعولين.
ول «جعل» مواضع أخر لا حاجة بنا إلى ذكرها؛ فكأنه تعالى قال: ونسب عبد الطاغوت إليهم، وشهد أنهم من جملتهم.
فإن قيل: لو كانت جَعَلَ هاهنا على ما ذكرتم لوجب أن تكون متعدية إلى مفعولين؛ لأنها إذا لم تتعد إلّا إلى مفعول واحد فلا معنى لها إلا الخلق.
قلنا: هذا غلط من متوهّمه؛ لأن جَعَلَ هاهنا متعدية إلى مفعولين، وقوله تعالى:
مِنْهُمْ يقوم مقام المفعول الثانى عند جميع أهل العربية، لأن كلّ جملة تقع فى موضع خبر المبتدأ فهى تحسن أن تقع فى موضع المفعول الثانى؛ كجعلت وظننت وما أشبههما.
وقال الشاعر:
أبا لأراجيز يا ابن اللّؤم توعدنى ... وفى الأراجيز خلت اللؤم والخور (١)
وقد فسر هذا على وجهين: أحدهما على الغاء «خلت» من حيث توسطت الكلام؛ فيكون «فى الأراجيز» على هذا فى موضع رفع بأنه خبر المبتدأ، والوجه الثانى على إعمال «خلت» فيكون «فى الأراجيز» فى موضع نصب من حيث وقع موقع المفعول الثانى. وهذا بيّن لمن تدبره.
قال سيدنا أدام الله علوّه: أنشد ثعلب عن ابن الأعرابىّ:
أما وأبى للصّبر فى كلّ خلّة ... أقرّ لعينى من غنى رهن ذلّة
وإنى لأختار الظّما فى مواطن ... على بارد عذب وأغنى بغلّة
وأستر ذنب الدّهر حتى كأنّه ... صديق، ولا اغتابه عند زلّة
ولست كمن كان ابن أمّى مقترا ... فلمّا أفاد المال عاد ابن علّة
فدابرته حتى انقضى الودّ بيننا ... ولم أتمطّق من نداه ببلّة
/ وكنت له عند الملمّات عدّة ... أسدّ بمالى دونه كلّ خلّة
(١) البيت للعين المنقرى يهجو العجاج؛ وهو من شواهد الكتاب (١: ٦٠).