للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أن يعرفوا بالجواب الوارد من جهته تعالى استحالة ما شكّوا فى صحته وجوازه؛ ومع الشك فى كونه جسما لا يصحّ معرفة السمع، فلا يقع بجوابه انتفاع ولا علم.

وقد قال بعض من تكلم فى هذه الآية: قد كان جائزا أن يسأل موسى عليه السلام لقومه ما يعلم استحالته؛ وإن كانت دلالة السمع لا تثبت قبل معرفته؛ متى كان المعلوم أن فى ذلك صلاحا للمكلّفين فى الدين، وإنّ ورود الجواب يكون لطفا لهم فى النظر فى الأدلة، وإصابة الحق منها؛ غير/ أن من أجاب بذلك شرط أن يتبين النبي عليه السلام فى مسألته علمه باستحالة ما سأل عنه، وأن غرضه فى السؤال ورود الجواب ليكون لطفا.

والجواب الثانى فى الآية أن يكون موسى عليه السلام إنما سأل ربّه أن يعلمه نفسه ضرورة بإظهار بعض أعلام الآخرة، التى تضطرّ إلى المعرفة، فتزول عنه الدواعى والشكوك والشبهات، ويستغنى عن الاستدلال، فتخفّ المحنة عليه بذلك؛ كما سأل إبراهيم عليه السلام ربه تعالى أن يريه كيف يحيى الموتى طلبا لتخفيف المحنة، وإن

كان قد عرف ذلك قبل أن يراه؛ والسؤال إن وقع بلفظ الرؤية فإن الرؤية تفيد العلم كما تفيد الإدراك بالبصر، وذلك أظهر من أن يستدل عليه أو يستشهد عليه؛ فقال له جل وعز: لَنْ تَرانِي أى لن تعلمنى على هذا الوجه الّذي التمسته منى، ثم أكّد ذلك بأن أظهر فى الجبل من آياته وعجائبه ما دلّ به على أنّ إظهار ما تقع به المعرفة الضرورية فى الدنيا مع التكليف وبيانه لا يجوز، وأن الحكمة تمنع منه.

والوجه الأول أولى لما ذكرناه من الوجوه؛ ولأنه لا يخلو موسى عليه السلام من أن يكون شاكّا فى أنّ المعرفة الضرورية لا يصح دخولها (١) فى الدنيا أو عالما بذلك. فإن كان شاكا فهذا مما لا يجوز على النبي عليه السلام؛ لأن الشكّ فيما يرجع إلى أصول الديانات وقواعد التكليف لا يجوز عليهم، ولا سيما أن يعلم الله ذلك على حقيقتهم بعض أمتهم، فيزيد عليهم فى المعرفة؛ وهذا أبلغ فى التنفير عنهم من كل شيء يمنع (٢) منه فيهم. وإن كان عالما فلا وجه لسؤاله إلا أن


(١) ف: «حصولها».
(٢) حاشية الأصل (من نسخة): «يمتنع منه».