للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومن قال: إنها دخلت للتوكيد يجب أن يكون مراده ما قصدناه وشرحناه؛ لأن التوكيد متى لم يكن تحته فائدة كان دخوله عبثا.

وهذا الكلام الّذي بسطناه فى تأمّله فوائد كثيرة؛ وكان السبب فيه أن بعض من قرئ عليه كلام حكايته فى وصف كتابين: «ووجدت فيهما من التغلغل والتوصّل إلى مكامن الارتجاف، ومغابن الإسعاف، لا تطرق فجاجها، ولا يفتح رتاجها، ولا يمرّ بشعابها، ولا يلمّ بأبوابها ... »؛ وأطال الكلام، ولم يأت بما يرجع إلى قوله: «من التغلغل» (١).

وهذا من الحذف الّذي حسّنه طول الكلام، ودلالة ما فيه على المحذوف؛ لأنّ التقدير:

ووجدت فيه من التغلغل الكثير؛ فاستغنى عن ذكره بالمفهوم من الكلام؛ كما استغنى بالمحذوف التى ذكرناها فى القرآن والشعر بما فى معنى الكلام، وعدّ ذلك فصاحة وبلاغة. وكم بين أن يفهم المعنى ويلحظ من غير لفظ صريح، وبين أن يأتى فيه لفظ مصرّح فى البلاغة والفصاحة!

وقد كنت أمليت قديما مسألة أوضحت فيها أنّ التأكيد لا بدّ فيه من فائدة، وخطّأت من ذهب إلى خلاف ذلك، وبيّنت أنّ كلّ موضع ادّعى فيه أنّه للتأكيد من غير فائدة مجددة فيه فائدة مفهومة؛ وأن قوله تعالى: فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً؛ [الفرقان: ٧١] ما ورد هذا المصدر للتأكيد على ما يقوله قوم؛ بل لفائدة مجدّدة؛ لأنه تعالى أراد متابا جميلا مقبولا واقعا فى موقعه، فحذف ذلك اختصارا؛ كما يقول العربىّ الفصيح فى الشعر المستحسن:

هذا هو الشعر، والفرس الممدوح: هذا هو الفرس؛ وإنما حذف الصفة اختصارا؛ والمراد هذا هو الشعر المستحسن، والفرس الكريم؛ ومثله قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً؛ [النساء: ١٦٤] إنه أراد الفضل والمدح. وقال قوم: بل سمع كلامه من غير واسطة؛ ولا متحمّل له.


(١) بعد هذه الكلمة فى ف إشارة إلحاق، كتب إلى جانبها كلمة «تبلد»، مقرونة برمز «صح»؛ وليس هنا ما يقتضي إثباتها.