سببا لنزوله من الثقوب؛ لأن الهواء على مذاهبنا لا اعتمادات فيه، فكيف يدافع الماء! ومن قال من الفلاسفة: إن فيه اعتمادات صعدا لا يليق دفع الماء بقوله، لأن تلك الاعتمادات فى غير جهة اعتماد الماء. وأىّ عاقل يخفى عليه أن الهواء الساكن المعتدل لا يجوز أن يدفع الماء من رأس السحّارة!
وبعد، فمع القول بجواز خلوّ الأماكن من الهواء؛ والقطع على ذلك فى بعض الأحوال قد كان يجب أن يجوز أن يفتح رأس السحّارة، ولا يسيل الماء من الثّقب من أسفلها؛ لأن الهواء الّذي ادّعى أنه يدافع الماء من رأسها مفقود.
والّذي يدعيه أبو هاشم من أن السحّارة لو ملئت زئبقا وسدّ رأسها لنزل من الثقوب الصّغار؛ وقوله: إنما كان كذلك لثقل الزّئبق، وأنّ الهواء الّذي يلاقى من تحتها الثقوب الصغار لا يقوى على منعه من النزول؛ كما لا يتم ذلك فى الماء موقوف على التّجربة.
فأما ما جرّبناه فنتكلّم على العلة المفرّقة بين الزّئبق والماء؛ والّذي يجب أن يعتمد فى نقض الاستدلال من القائلين بذلك فى الماء والسحارة أن يقال لهم: ما أنكرتم أن يكون الله تعالى أجرى العادة بأن يفعل فى الماء السكون والوقوف مع سدّ رأسها، فلا ينزل من أسفلها، وإذا فتحنا رأسها لم يفعل ذلك السكون فيجرى الماء منها من الثقوب.
وليس ينبغى أن ينكر أصحابنا خاصّة أن يكون هذا بالعادة؛ ونحن كلّنا نقول: إن انجذاب الحديد إلى حجر
المغناطيس إنما هو بالعادة؛ وإلا فالمغناطيس وسائر الأحجار سواء.
وإن بالعادة وقع الشّبع عند تناول الخبز واللحم، وارتفع عند غيرهما، والجنس واحد وما تقوّل جماعتنا إنه بالعادة أكثر من أن يحصى.
وإذا أنكر الفلاسفة الملحدون تعليقنا ذلك بالعادة لجحدهم الصانع؛ دللناهم على الأصل الّذي لمّا جهلوه ضعف ما نقوله فى نفوسهم، فبثبوته يسهل ذلك كلّه.
فإذا قيل لنا: فما طريقه العادة يجوز فيه الاختلاف؛ فجوّزوا أن تكون السحارة فى بعض البلاد التى لا تتصل بنا أخبارها يسيل الماء من أسفلها مع سدّ رأسها، ولا يسيل مع فتحها.