للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الشبهة السادسة والعشرون:

أَيْنَ فُلَانٌ؟:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ: «مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟»، قَالَا: «الْجُوعُ، يَا رَسُولَ اللهِ»، قَالَ: «وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا؛ قُومُوا»، فَقَامُوا مَعَهُ فَأَتَى رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ.

فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ: «مَرْحَبًا وَأَهْلًا»، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَيْنَ فُلَانٌ؟»، قَالَتْ: «ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنْ الْمَاءِ»، إِذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَصَاحِبَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي».

قَالَ: فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ فَقَالَ كُلُوا مِنْ هَذِهِ وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ».

فَذَبَحَ لَهُمْ فَأَكَلُوا مِنْ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ وَشَرِبُوا، فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوُوا قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ الْجُوعُ ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ» (رواه مسلم) (١).


(١) «وَقَوْله: (فَأَتَى رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَار) هُوَ أَبُو الْهَيْثَم مَالِك بْن التَّيِّهَان ـ بِفَتْحِ الْمُثَنَّاة فَوْق وَتَشْدِيد تَحْت مَعَ كَسْرهَا ـ وَفِيهِ جَوَاز الْإِدْلَال عَلَى الصَّاحِب الَّذِي يُوثَق بِهِ كَمَا تَرْجَمْنَا لَهُ وَاسْتِتْبَاع جَمَاعَة إِلَى بَيْته، وَفِيهِ مَنْقَبَة لِأَبِي الْهَيْثَم إِذْ جَعَلَهُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَهْلًا لِذَلِكَ وَكَفَى بِهِ شَرَفًا ذَلِكَ.
وَقَوْلهَا: (ذَهَبَ يَسْتَعْذِب لَنَا الْمَاء) أَيْ يَأْتِينَا بِمَاءٍ عَذْب، وَهُوَ الطَّيِّب، وَفِيهِ: جَوَاز اِسْتِعْذَابه وَتَطْيِيبه.

قَوْله: (فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْر وَتَمْر وَرُطَب فَقَالَ: كُلُوا مِنْ هَذِهِ) الْعِذْق هُنَا بِكَسْرِ الْعَيْن وَهِيَ الْكِبَاسَة، وَهِيَ الْغُصْن مِنْ النَّخْل، وَإِنَّمَا أَتَى بِهَذَا الْعِذْق الْمُلَوَّن لِيَكُونَ أَطْرَف، وَلْيَجْمَعُوا بَيْن أَكْل الْأَنْوَاع فَقَدْ يَطِيب لِبَعْضِهِمْ هَذَا وَلِبَعْضِهِمْ هَذَا.
وَفِيهِ: دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب تَقْدِيم الْفَاكِهَة عَلَى الْخُبْز وَاللَّحْم وَغَيْرهمَا، وَفِيهِ اِسْتِحْبَاب الْمُبَادَرَة إِلَى الضَّيْف بِمَا تَيَسَّرَ، وَإِكْرَامه بَعْده بِطَعَامٍ يَصْنَعهُ لَهُ لَا سِيَّمَا إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنّه حَاجَته فِي الْحَال إِلَى الطَّعَام، وَقَدْ يَكُون شَدِيد الْحَاجَة إِلَى التَّعْجِيل وَقَدْ يَشُقّ عَلَيْهِ اِنْتِظَار مَا يَصْنَع لَهُ لِاسْتِعْجَالِهِ لِلِانْصِرَافِ. ... =
= قَوْله: (وَأَخَذَ الْمُدْيَة فَقَالَ لَهُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِيَّاكَ وَالْحَلُوب») الْمُدْيَة: هِيَ السِّكِّين، وَالْحَلُوب: ذَات اللَّبَن. ...
قَوْله: (فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرُوُوا قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - لِأَبِي بَكْر وَعُمَر - رضي الله عنهما -: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيم يَوْم الْقِيَامَة») فِيهِ: دَلِيل عَلَى جَوَاز الشِّبَع، وَمَا جَاءَ فِي كَرَاهَة الشِّبَع فَمَحْمُول عَلَى الْمُدَاوَمَة عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يُقَسِّي الْقَلْب وَيُنْسِي أَمْر الْمُحْتَاجِينَ، وَأَمَّا السُّؤَال عَنْ هَذَا النَّعِيم فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاض: الْمُرَاد السُّؤَال عَنْ الْقِيَام بِحَقِّ شُكْره، وَالَّذِي نَعْتَقِدهُ أَنَّ السُّؤَال هُنَا سُؤَال تَعْدَاد النِّعَم وَإِعْلَام بِالِامْتِنَانِ بِهَا، وَإِظْهَار الْكَرَامَة بِإِسْبَاغِهَا لَا سُؤَال تَوْبِيخ وَتَقْرِيع وَمُحَاسَبَة. وَاللهُ أَعْلَم.
(باختصار من شرح الإمام النووي لهذا الحديث من صحيح مسلم (١٣/ ٢١٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>