والأمثلة على ذلك كثيرة، لكن الانحراف الأصولي في كلام دعاة الاختلاط أنهم قاسوا (الزمن الكثير) على (الزمن اليسير)، فصار مؤدى كلامهم أن طول الزمن وقصره لا أثر له على الأحكام، فلم يفهموا اعتبار الزمن في فقه الفروع، وتوهموا أن الحكم الشرعي إذا ثبت للزمن اليسير ثبت للزمن الطويل، ولذلك جاؤوا بهذا القياس الفاسد الاعتبار، وصار مقتضى قياسهم الفاسد أن كل ما عفت الشريعة فيه عن اليسير يعفى فيه عن الكثير!
والخلل في قياس دعاة الاختلاط أنهم لما رأو النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تَرَك الناس في الطواف والطريق يختلطون ـ لأنه زمان يسير عابر ـ ظنوا أنه يجوز أن يجلسوا مختلطين في مكتب واحد أو مقاعد دراسية واحدة طوال النهار ولمدة سنوات مع شدة الإفضاء إلى الفتنة! فهل يقول هذا رجل شم بأنفه كتب فقه الشريعة أو جالس أهل العلم الربانيين؟!
فثبوت الرخصة في شئ يسير لا يُجَوِّز أن يقاس عليه الشئ الكثير.
و (الزمن) طولًا وقصرًا ليس هو العلة التامة في الاختلاط، بل هو قرينة من القرائن والأوصاف المؤثرة، وإنما المناط التام في الاختلاط ـ وهو المناط الذي لاينخرم ـ هو (قوة الإفضاء إلى الفتنة) وليس الزمن إلا وصف أغْلبيٍّ من الأوصاف المؤثرة في قوة الإفضاء إلى الفتنة، فكلما اشتد إفضاء الاختلاط إلى الفتنة حَرُمَ، وكلما ضعف إفضاء الاختلاط إلى الفتنة شُرِعَ.
ومن تدبر فتاوى العلماء الربانيين من السلف ومن بعدهم رأى أنها كلها تدور حول شدة الإفضاء إلى الفتنة، ومن ذلك فتوى عَائِشَةَ - رضي الله عنها - زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَتْ:«لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - رَأَى مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ». (رواه البخاري ومسلم).
فعائشة - رضي الله عنها - تتحدث عن أمر كان مشروعًا، لكنها لما رأت أن الفتنة اشتدت، أشارت إلى أن ذلك يؤول إلى التحريم، وأن هذا هو الذي فقهَتْه من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -.