[حالات من خرج عن الطريق المستقيم]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واعلم أن الخروج عن الطريق على وجهين: أما أحدهما: فرجل قد زل عن الطريق وهو لا يريد إلا الخير فلا يقتدى بزلته فإنه هالك.
وآخر عاند الحق وخالف من كان قبله من المتقين فهو ضال مضل، شيطان مريد في هذه الأمة، حقيق على من يعرفه أن يحذر الناس منه ويبين لهم قصته؛ لئلا يقع في بدعته أحد فيهلك].
(اعلم) يعني: تيقن (أن الخروج من الطريق يكون على وجهين) يعني: الذي خرج عن الطريق المستقيم وخالف السنة له حالتان: الحالة الأولى: (رجل قد زل عن الطريق وهو لا يريد إلا الخير فلا يقتدى بزلته فإنه هالك)، هذا النوع من الناس أو هذه الحالة هو من لا يريد إلا الخير فلا يقتدى بزلته فإنه هالك، يعني: أنه لم يتعمد ترك الحق ولكنه خالف الحق، فهذا لا يقتدى به ولو كان من الصحابة أو التابعين.
وأما قول المؤلف رحمه الله (فإنه هالك) فهذا فيه تفصيل: إن كان عالماً مجتهداً واجتهد وهذا هو الذي وصل إليه باجتهاده فهو مأجور على اجتهاده وخطؤه مغفور، ولكن لا نقتدي به وإنما نترحم عليه ما دام أننا عرفنا أنه مخالف للنص حتى ولو كان من الصحابة.
ومثال ذلك: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع منهم من أحرم بحج فقط ومنهم من أحرم بعمرة وحج، ومنهم من أحرم بالحج مفرداً، ومن أحرم متمتعاً بالعمرة إلى الحج، ومنهم من أحرم بالعمرة مفرداً، فلما قربوا من مكة أمر عليه الصلاة والسلام الذين لم يسوقوا الهدي أن يقلبوا إحرامهم إلى عمرة، ثم لما طافوا وسعوا عند المروة حتم عليهم وألزمهم أن يتحللوا فتحللوا كلهم إلا من ساق الهدي؛ وذلك لإزالة اعتقاد الجاهلية؛ فقد كان أهل الجاهلية يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يزيل اعتقاد أهل الجاهلية وأمرهم أن يجعلوها عمرة، حتى إن الصحابة رضوان الله عليهم قالوا: يا رسول الله! أيذهب أحدنا إلى منى وذكره يقطر منياً، فخطبهم، وقال: لولا أني سقت الهدي لأحللت.
تطييباً لخواطرهم، لأنهم كانوا في الجاهلية لا يعتمرون في وقت الحج.
فأخذ العلماء من هذا مشروعية فسخ الحج إلى العمرة لمن لم يسق الهدي، وقالوا: إن هذا هو الأفضل، ولا شك أنه الأفضل، وقد أفتى بذلك علي رضي الله عنه وأبو موسى الأشعري وابن عباس، ثم اجتهد الخلفاء الثلاثة رضوان الله عليهم أبو بكر وعمر وعثمان وصاروا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يفتون الناس أن يحرموا بالحج مفردين، وقالوا إن العمرة يؤتى بها في وقت آخر حتى يستمر الإحرام ولا يزال هذا البيت يحج ويعتمر، وقالوا: إن اعتقاد أهل الجاهلية زال، فكانوا يفتون الناس بالحج مفردين، وبقي ابن عباس وعلي يفتيان بالتمتع.
ولما اختلف علي وعثمان، فقال علي لـ عثمان: ما كنت لأدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد.
وكذلك أبو موسى الأشعري، حتى إن جماعة ناظروا ابن عباس، وقالوا له: كيف يا ابن عباس! تأمر بالعمرة وأبو بكر وعمر يأمران بالحج؟ فاشتد ابن عباس رضي الله عنه في الإنكار عليهم؛ لأنهم خالفوا السنة، فقال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول قال رسول الله، وتقولون قال أبو بكر وعمر.
فهذا قول للخلفاء الثلاثة وقد اجتهدوا رضي الله عنهم، لكن الصواب مع ابن عباس، ومع علي، ومع أبي موسى الأشعري، فمن خالف السنة باجتهاد فهذا له أجر على اجتهاده كالصحابة ومن بعدهم من العلماء، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر).
يقول المؤلف رحمه الله: (فإنه هالك) وهذا فيه تفصيل، فإن كان متعمداً ترك الحق فهذا هالك، أما إذا كان عن اجتهاد فليس بهالك.
والحالة الثانية: قال: (وآخر عاند الحق وخالف من كان قبله من المتقين فهذا ضال مضل، شيطان مريد في هذه الأمة)، فإذا عاند الحق وترك الحق عن هوى لا عن اجتهاد بل عن اتباع للهوى فهو ضال مضل، وهو شيطان مريد في هذه الأمة، هذا إذا كانت مخالفته كبيرة توصل إلى هذا الحد، أما إذا كانت مخالفة يسيرة فقد لا يكون بهذا الوصف، حيث إن هذا الوصف من قوة المؤلف رحمه الله، وشدته على أهل البدع، وقوة الدفاع عن الحق، ولشدة تحذيره من أهل البدع وإلا هذا فيه تفصيل أيضاً، فالذي خالف الحق في بعض المسائل الواردة في السنة مثل رفع اليدين في الصلاة، أو جلسة الاستراحة وغيرها من المسائل التي لا توصل إلى هذا الوصف فيكون قد خالف السنة ولا يكون بهذا الوصف، وإن كان قد خالف الحق في المسائل التي خلافها مؤثر حتى يكون فاعلها ضالاً مضلاً فهو بهذا الوصف.
فيجب على الإنسان أن يحذَّر من البدع ويحذَّر من أهل البدع وأهل الضلال حتى لا يقعوا في بدعته فيهلكون.